رغم كل ما يُثار بشأن توجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإلغاء الاتفاق النووي الموقّع بين نظام الملالي في طهران وبين القوى الدولية الكبرى (مجموعة 5+1)، ورغم ما يُثار ظاهرياً بشأن تشدد الغرب مع إيران للسيطرة على خططها التوسعية، فإن النظام الإيراني لا يزال يصر على تزويد ميلشيات الحوثي الانقلابية بالصواريخ والدعم العسكري اللازم من أجل تهديد أمن المملكة العربية السعودية.
لجأت ميلشيات الحوثي في توجيه الصواريخ الباليستية التي أطلقتها في الخامس والعشرين من مارس الجاري إلى إستراتيجية تعرف بإستراتيجية الإغراق الصاروخي، وتقوم على إطلاق عدد كبير من الصواريخ بالتزامن، أو في توقيت واحد بهدف تجاوز الدروع المضادة للصواريخ وإتاحة الفرصة لواحد من هذه الصواريخ أو بعضها للإفلات من المنظومة الصاروخية المضادة للصواريخ، وتعظيم فرص حدوث هذه الاحتمالية الكارثية؛ وهذه الإستراتيجية تستخدم غالباً في حالات الصواريخ قصيرة المدى لاعتبارات التكلفة الاقتصادية، ولكن في الحالة الحوثية تحديداً يمكن القول بأن هذه الإستراتيجية التي تبدو بصمات قادة الحرس الثوري واضحة عليها، تستهدف أمرين: إما تحقيق أكبر قدر من الترويع ونشر الخوف والرعب بين السكان المدنيين، أو ترجيح فرص إصابة الهدف بأي من هذه الصواريخ، وفي جميع الحالات السعي لاستنفاد مخزون المنظومة المضادة للصواريخ لدى المملكة العربية السعودية، بما يؤثّر في قدرات المملكة الشقيقة على التصدي لأي هجمات صاروخية مقبلة، أو التأثير نفسياً في قرارات القيادة السعودية.
من الناحية الإستراتيجية إذن، لا يمكن القبول بتحليل يستبعد تدخل مستشارين عسكريين إيرانيين في رسمها، وقد سبق لوكالة «رويترز» أن نشرت تقريراً أكد وجود مستشارين عسكريين إيرانيين لدى جماعة الحوثي، وما يعزّز هذه الفرضية شاهد آخر هو تزايد تصريحات القادة الحوثيين عن اللجوء إلى الطائرات من دون طيار لاستهداف السعودية والإمارات (!)، وهذا يقودنا إلى القطع التام بدور إيران، بحكم ما يعرف عن إيران من تقدم في تطوير الطائرات من دون طيار ونقل التكنولوجيا الخاصة بها إلى أذرع إيران الطائفية ووكلائها الإقليميين، فهناك طائرات من دون طيار لدى «حزب الله» اللبناني، و»حماس»، وها هي تظهر على الساحة الحوثية كما كان متوقعاً.
الحوثيون يقولون إن الطائرات من دون طيار جرى تصنيعها محلياً، وهذا أمر وارد بدرجة ولو قليلة، بل دعونا نصدق هذه المزاعم الواهية، ولكن الأمر المؤكّد أن التكنولوجيا الخاصة بالطائرات والأجزاء التقنية المعقدة التي يتم تجميعها في اليمن هي بالتأكيد قادمة من إيران، حيث كشفت صحيفة «التايمز» البريطانية منذ فترة قليلة، نقلاً عن تقرير من منظمة تراقب التسلح أثناء النزاعات، أن الطائرات بدون طيار التي يملكها الحوثيون في اليمن هي صناعة إيرانية تماماً، حيث قارن الباحثون بين الأرقام التسلسلية للطائرات بدون طيار التي تستخدم في «هجمات انتحارية» للحوثيين، مع الإصدارات الإيرانية المعروفة لطائرات بدون طيار. وقد ذكر التقرير البريطاني أيضاً أن الطائرة من دون طيار التي كشف عنها الحوثيون (قاصف -1) مماثلة لطائرة سبق أن ظهرت في شريط فيديو بث على الإنترنت من «داعش» استولى عليها من ميليشيات شيعية تدعمها إيران بالعراق، وهي طائرة «أبابيل» الإيرانية.
في ظل حالة الصمت والتردد الدولي حيال التعامل مع الخطر الإيراني المتزايد، يتجه الملالي نحو قرارات وخطوات أكثر كارثية بالإقدام على استهداف مدن عدة في المملكة العربية السعودية بالصواريخ الباليستية، وهم يقصدون نشر الذعر والرعب أكثر مما يستهدفون وصول الصواريخ لأهدافها، لذا لا ينبغي أن يستهين العالم بما يحدث بدعوى أن الصواريخ يتم تدميرها عبر منظومة الدروع الصاروخية الفعّالة التي تمتلكها السعودية، فالفعل بالأساس قد حدث وهو فعل معاد يرقى إلى مستوى التهديد العسكري بالغ الخطورة، لأن وصول أي من هذه الصواريخ إلى هدفه يعني عواقب كارثية بالنسبة للدولة والشعب والاقتصاد السعودي.
إشكالية المجتمع الدولي في التعامل مع إيران تكمن في صراعات المصالح وتقاسم النفوذ، فشركاء حلف الأطلسي ذاتهم منقسمين بين مصالح أوروبا وأهداف الولايات المتحدة، وباستبعاد رفض روسيا وتحفظ الصين على أي قرارات رادعة باتجاه إيران، فإن هذه السيولة والفوضى في نظام الأمن العالمي يغري الملالي بارتكاب المزيد من الحماقات والجرائم وتحريض الحوثي وغيره من الميلشيات والوكلاء الطائفيين على ارتكاب مزيد من الحماقات، ما يثير تساؤلات مشروعة يجب أن يطرحها الغرب على نفسه لقراءة الواقع بصورة أدق: إلى متى يمكن الرهان على أن دول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ستحافظ على صبرها حيال هذه التجاوزات الإيرانية التي ترقى إلى درجة العمل العسكري؟ وكيف يمكن لدول التحالف التريث والصمت على هذا الاستهداف المتكرر من دون التصدي لمصدر التهديد المباشر وهو إيران؟!
ربما يمتلك الغرب رؤية مغايرة لما يراها الخبراء والمحلّلون من خطر داهم لاشتعال صراع عسكري جديد في منطقتنا، ولكن الكارثة الحقيقية أن البعض لا يزال يبدي عدم اقتناع بدور إيران في مجمل الصراعات والأزمات التي تشهدها المنطقة، أو أن هناك من يقدم مصالحه الإستراتيجية على مسألة ردع إيران عمّا ترتكبه من جرائم واعتداءات بحث الدول المجاورة؛ وهذه الأمور واردة في لعبة السياسة الدولية، ولكن ما حدث مؤخراً من استهداف صاروخي حوثي للسعودية يجب أن يدفع الغرب، وأوروبا تحديداً، إلى إعادة قراءة المشهد جيداً وبناء حسابات وتقديرات تضع الأمن والسلم الإقليمي والعالمي فوق اعتبارات المصالح الضيقة التي لن يكون لها وجود من الأساس في حال انزلقت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.