بعد أشهر قلائل من انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، يبدأ هذا الأسبوع سريان الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية، والتي تعد الأهم والأكثر تأثيراً كونها تتعلق بحظر شراء صادرات النفط الإيراني، وما يعزز فاعلية القرار الأمريكي في هذا الشأن أنه ينص على منع كل الدول والشركات والكيانات الأجنبية من دخول الأسواق الأمريكية في حال واصلت شراء النفط الإيراني أو التعامل مع المصارف الإيرانية.
هذا القرار يعني بشكل واقعي خنق أي اقتصاد أو محاصرة أي شركة تقوم بشراء النفط الإيراني أو التعامل مع المصارف الإيرانية بشكل مباشر، ويعني بالأساس خنق الاقتصاد الإيراني وحرمانه من أي فرص حقيقية للانخراط في الاقتصاد العالمي.
ورغم بيانات التأييد الأوروبية للإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني، فإن الحقيقة تقول إن من الصعب على الشركات الأوروبية الإبقاء على تعاملاتها مع إيران، لأن قوانين الحماية الأوروبية ليست كافية للحفاظ على مصالح هذه الشركات، التي تدرك جيداً أن فقدان الأسواق الأمريكية يعني أن فرص انهيار هذه الشركات باتت أقرب من التصورات!
هناك ثمانية دول تم استثناؤها -أمريكياً- من قرار العقوبات، بحيث سيكون بإمكانها - مؤقتاً- الاستمرار في استيراد النفط الإيراني، وذلك لأنها «أثبتت قيامها بجهود كبيرة في اتجاه وقف وارادتها من النفط الإيراني قدر الإمكان، وهذا السبب يخص بعض دول الثمانية المعفاة، التي تعهد اثنان منها بقطع نهائي لواردات النفط الإيراني في المستقبل، بجانب أن بعضها الآخر «تعاون في العديد من الجبهات الأخرى» مع الولايات المتحدة، وهذا مبرر يتعلق بالبعض الآخر من هذه الدول، وفي مقدمتها تركيا بطبيعة الحال.
البعض يرى أن قائمة الدول المستثناة تضم دولاً لم يكن أمام الولايات المتحدة سوى استثنائها من قرار العقوبات حفاظاً على هيبة القرار الأمريكي، الذي ترى واشنطن أنه ينطوي على العقوبات الأقسى في التاريخ، وكي لا تتوتر العلاقات مع هذه الدول التي كان واضحاً أنها لن تلتزم بتطبيق القرار.
أيا كان الواقع، فإن التأثيرات الاقتصادية المتوقعة للقرار الأمريكي تقول إنه سيترك آثاراً مؤلمة للغاية على الاقتصاد الإيراني، وأن طهران تدرك جيداً حقيقية هذه العواقب، لذلك قامت مؤخراً بإجراء تعديل وزاري استباقي، يتضمن بالأساس تغيير وزراء المجموعة الاقتصادية في الحكومة الإيرانية، لأن طهران تدرك أن الآلية الأوروبية لتيسير المدفوعات للصادرات الإيرانية، والتي تدخل حيز التنفيذ بالتزامن مع سريان العقوبات الأمريكية، لن تجدي كثيراً في حماية الاقتصاد الإيراني.
الحقيقة أن العقوبات الأمريكية ستلعب دوراً رئيسياً في الضغط على نظام الملالي، الذي يعاني بالفعل جراء الغضب الشعبي المتنامي بسبب ارتفاع الأسعار والتضخم وتزايد معدلات البطالة، كما أنها ستلعب دوراً حيوياً في وقف مصادر التمويل المالي لتنظيمات الإرهاب التي يرعاها ويمولها الملالي في سوريا ولبنان واليمن.
الفكرة التي تقف وراء العقوبات تكمن في ممارسة أقسى ضغط على نظام الملالي من أجل تشجيع الاحتجاجات الداخلية وتقليص قدرة النظام على المناورة تمهيداً لإجباره على الانصياع للغة التفاوض والحوار، أو بمعنى أدق استنساخ سيناريو كوريا الشمالية، التي أجبرتها العقوبات على تخفيف لهجته العدائية والجلوس على مائدة التفاوض، ومن هنا يصبح التساؤل حول إمكانية أن تؤتي العقوبات بالنتائج ذاتها في الحالة الإيرانية، ولاسيما أن هناك حالات أخرى في التاريخ لم تفلح العقوبات في الضغط على الأنظمة من أجل الحوار.
من يعرف طبيعة النظام الإيراني جيداً يدرك أن أي عقوبات تتوقف فاعليتها على مدى تهديدها للنظام ذاته، بمعنى أن استشعار النظام الإيراني للخطر وتزايد احتمالات انهياره وسقوطه في ظل غضب شعبي عارم تحت تأثير العقوبات، سيكون دافعاً قوياً لجلب الملالي إلى مائدة التفاوض مجدداً مع الولايات المتحدة، ولكن توقف التأثيرات عند معاناة الشعب الإيراني سيعني بالتبعية أن النظام سيواصل العناد ولغة الاستعلاء القومي وسيواصل مشروعاته التوسعية في الشرق الأوسط.
الحقيقة أن نظام الملالي لا يهمه سوى مصيره، ولا يهتم مطلقاً بأي أثر اقتصادي على الشعب الإيراني، واعتقد أن العقوبات ستطال مصير النظام، لأنها تحرمه من معظم عائدات النفط التي تمثل ليس فقط عصب الاقتصاد الإيراني، ولكنها توفر أيضاَ التمويل اللازم لخطط النظام وتدخلاته في الشؤون العربية. ومن ثم فإن الأرجح أن يبدأ خنق هذا النظام الاستبدادي بعد أشهر قلائل من سريان العقوبات الأمريكية.