أثار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حيرة الكثير من المراقبين بعد تقديم استقالة مفاجئة، ثم جاء إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني عدم قبولها بحسب ما أعلنت الرئاسة الإيرانية!
في تفسير الأمر، قال المتحدث الرئاسي الإيراني إن "كل التفسيرات والتحليلات حول أسباب استقالة ظريف غير صحيحة وبعيدة عن الحقائق"، وهذا كلام مرسل ويضاعف غموض الموقف، سيما أن المتحدث لم يشر من قريب أو بعيد إلى الأٍسباب التي يراها "حقيقية" وتفسر الاستقالة.
ظريف ليس شخصاً عادياً في نظام الملالي الإيراني، بل يمثل واجهة النظام الدبلوماسية، التي يعتمد عليها كثيراً في التعامل مع الغرب تحديداً، ويقوم بدور "البطولة" في لعبة خلط الأوراق والازدواجية التي يمارسها النظام الإيراني في العلاقة مع العالم، من حيث توزيع الأدوار بين "الطيب" والشرير!
أحد الجوانب اللافتة في الاستقالة المفاجئة أن نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي قال إن المسؤولين في الخارجية ليس لديهم علم حول استقالة ظريف، مشيراً إلى أن الوزير أعلنها عبر حسابه على "انستجرام" ومازالت أسبابها مجهولة! ولاحظواً أننا هنا نتحدث عن وزير في نظام الملالي وليس وزير خارجية دولة غربية يمكن أن يتخذ من "انستجرام" وسيلة لإطلالة سياسية على الداخل والخارج.
وبغض النظر عن التبريرات الإيرانية الغائبة للاستقالة، فإن البحث في الأسباب يقود إلى بعض العوامل منها المقابلة التي نشرتها صحيفة "جمهوري إسلامي" الموالية للجناح الموسوم بالتشدد في نظام الملالي، وأكد فيها أن "الصراع بين الأحزاب والفصائل في إيران له تأثير السم القاتل على السياسة الخارجية الإيرانية"، وأنا شخصياً لا أعرف سر "السم" وعلاقته بالدبلوماسية الإيرانية، فالخميني وصف في الماضي قبول اتفاق الحرب مع العراق بأنه مثل "تجرع السم"، ويعود ظريف الآن ليصف صراعات رموز نظام الملالي بأن لها تأثير "السم القاتل"، ويبدو أن النظام يستعد أو يتهيىء لتجرع سم آخر ربما بالرضوخ لتهديدات الرئيس ترامب وتغيير المسار لكن بعد إيجاد طريقة ملائمة للخروج من عنق الزجاجة الذي وجد الملالي أنفسهم فيه منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق.
البعض اتخذ من تصريحات ظريف نقطة انطلاق لتفسير سبب الاستقالة حيث رأوا أن هناك ضغوط من عناصر داخل النظام، ولاسيما ما يتعلق بالاتفاق النووي الموقع بين نظام الملالي ومجموعة "5+1".
ظريف يرى أن السياسة الخارجية الإيرانية "يجب أن تٌبعد عن صراع الأحزاب والفصائل"، ولكنه أول من يعرف تماماً أن النظام لا يمكن أن يترك له حرية التصرف بمفرده في بوصلة السياسة الخارجية!
ثمة نقطة لافتة أيضاً تفسر عدم قبول روحاني لاستقالة ظريف وتتمثل في أن علي نجفي خوشرودي المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإيراني قد قال في تصريح صحفي أن "أغلبية من نواب البرلمان وقعوا رسالة لروحاني اليوم للمطالبة ببقاء ظريف في منصبه"، ما يعني أن الرئيس روحاني لم يكن صاحب قرار رفض الاستقالة أو أن المسألة برمتها "تمثيلية" لإضفاء نوع من المؤسسية على نظام الملالي، وأن مجلس الشورى له دور ورأي في القرارات الهامة في الحياة السياسية الإيرانية!
بغض النظر عن نفي المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، فإن الواقع يؤكد أن هناك علاقة قوية بين الوضع المتأزم لنظام الملالي وتلك الاستقالة، حيث يرى ظريف أنه "اتبع توجيهات الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي، أعلى سلطة في الجمهورية الإسلامية، خلال المفاوضات النووية"، وأضاف أن "الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون هما من تقع عليهما اللائمة في الانسحاب الأمريكي من الاتفاق وليس روحاني"، وهذا يعني بوضوح أن هناك من يحمل مسؤولية روحاني الانسحاب الأمريكي من الاتفاق،وأن هذا الأمر يعني بوضوح أن النظام الإيراني بات يرى أن الاتفاق قد مات اكلينيكياً منذ الانسحاب الأمريكي منه، وهذا الأمر يعني نشوب صراع قوي بين قادة النظام بسبب سوء إدارة الملف النووي.
الواضح لي شخصياً، كباحث متابع للملف الإيراني، أيضاَ أن هناك من يريد التضحية بروحاني وظريف وتقديمهما ككبش فداء لفشل الاتفاق النووي، وأن كل هؤلاء يدركون جيداً أن الاثنين لا يملكان بناء موقف مصيري كهذا ـ التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015 ـ من دون ضوء أخضر من المرشد، ولكن الجميع يخشى انتقاد المرشد الأعلى صاحب القبضة الأقوى في النظام، ويعملون على تقديم كبش فداء للفشل المخزي للاتفاق بحيث يحافظ النظام على ماء الوجه أمام الشعب الإيراني!