"التقية السياسية" تكتيك يعتمد عليه النظام الإيراني كثيرًا في إدارة الأزمات، حيث يحرص الملالي على الظهور بمظهر الضحية ومن ثم يقوم النظام ببناء استراتيجية كاملة قائمة على المظلومية السياسية، من أجل كسب تعاطف الرأي العام العالمي وتفادي أي تهديد قد يطال مستقبل النظام السياسي، ولكن هذا التكتيك وتلك الاستراتيجية باتت مكشوفة ولعبة معروفة لكل الدوائر السياسية سواء في منطقة الخليج العربي أو خارجها.
وبعد أيام من التصعيد العسكري المتعمد ودفع الأمور في المنطقة إلى حافة الهاوية لولا رشادة وعقلانية وحكمة القيادة في المملكة العربية السعودية ودولة الامارات وحسن إدارتهما للأزمة التي تسببت فيها إيران باستهداف سفن تجارية قرب المياه الإقليمية للامارات ومنشآت نفطية سعودية من خلال جماعة الحوثي الانقلابية التي تنفذ ما يمليه عليها قادة الحرس الثوري الإيراني، لولا هذه الرشادة والهدوء لانزلقت المنطقة بأكملها إلى حرب يريدها النظام الإيراني، رغم كل الادعاءات التي يظهرها بشأن تجنبها وتفاديها!
هناك أنظمة حكم ديكتاتورية تقتات وتعيش على الأزمات، ولا يمكن لها البقاء والاستمرار في ظروف الحياة الطبيعية، لسبب بسيط أن هذه الأنظمة لا تمتلك مشروعات ولا فكرًا تنمويًا يصب في مصلحة شعوبها بل تمتلك أجندات مذهبية وطائفية قائمة على التوسع العسكري من خلال هدر ثروات الشعوب ومواردها على الوكلاء والعملاء في الخارج، ومن بين هذه الأنظمة ملالي إيران، وغيرهم ممن شهدتهم المنطقة طيلة العقود الماضية، وتسببوا في إشعال الحرائق والصراعات والحروب وتوتير الأوضاع والأجواء.
في ضوء ماسبق، فإن نظام الملالي يزاوج بين مايضمر من نوايا العدوان والتوسع المذهبي من ناحية، وبين خطاب سياسي معلن قائم على مزاعم حسن النوايا والرغبة في احتواء التوترات من ناحية ثانية، ولكن هذه المزاوجة مكشوفة ولا تنطلي على أحد لأن التهديدات التي تصدر على لسان كبار قادة الحرس الثوري تتزامن تقريبًا مع تصريحات التهدئة التي يقول بها المسؤولون السياسيون الإيرانيون؛ وعلى سبيل المثال تابع العالم تصريحات عن أسلحة سرية يمتلكها النظام الإيراني قادرة على إغراق القطع البحرية في مياه الخليج العربي في الوقت الذي كان يعرض فيه وزير الخارجية محمد جواد ظريف توقيع ما وصفه باتفاقية عدم اعتداء مع جيران إيران العرب في الخليج العربي!
يظن النظام الإيراني أنه يحرج الدول الخليجية سياسيًا ودبلوماسيًا بعروض التهدئة، والحديث عن الرغبة في بناء "علاقات متوازنة"مع جميع الدول الخليجية كما زعم ظريف، فالحقيقة أن من يتابع الخط السياسي العام للسياسة الإيرانية يدرك مدى عبثية وانتفاء جدية مثل هذه العروض والمزاعم لأن أمن واستقرار الخليج العربي يحتاج إلى أفعال وسلوكيات جادة أكثر مما يحتاج إلى كلام معسول وتصريحات لامتصاص التوترات!
لو كان نظام الملالي جادًا فلن يكون الوضع بحاجة إلى اتفاقات عدم اعتداء وغير ذلك، ويكفي النظام الإيراني أن يكف الأذى وأن يتوقف عن إشعال الفتن ونشر الفوضى والاضطرابات في الإقليم كي يتحقق الأمن والاستقرار من دون اتفاقات عدم اعتداء أو غيره، كما أن فكرة بناء علاقات متوازنة هي فكرة مرهونة بإرادة النظام الإيراني الذي يتسم سلوكه السياسي وممارساته الفعلية بالغطرسة والتهور والاستعلاء القومي الفارسي، الذي يدفعه إلى التدخل المستمر في شؤون الدول المجاورة.
اللافت أن النظام الإيراني يطالب الدول الأوروبية بخطوات عملية وبذل المزيد من الجهد للحفاظ على الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة "5+1"، في حين لم يقدم النظام نفسه على أي خطوة عملية يمكن أن تصنف في خانة احتواء التوتر وإظهار حسن النوايا لجيرانه والعالم على حد سواء.
الحملة الدبلوماسية الواسعة التي يقوم بها النظام الإيراني اقليميًا ودوليًا هي انعكاس لقلق فعلي، وخشية من استهداف النظام وسقوطه سواء عبر تدخل عسكري مباشر، أو من خلال ضغوط اقتصادية تستنزف قدرات النظام على التماسك والبقاء وتؤول إلى انهياره الحتمي تحت ضغط الشارع الإيراني الذي ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على هذا النظام القمعي والقضاء عليه.