يلاحظ المحللون والخبراء أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدي اقتناعًا متزايدًا بأن النظام الإيراني يميل إلى الحوار مع الولايات المتحدة، رغم أن هذه القناعة تمضي في اتجاه مغاير تمامًا لما تصدره طهران من إشارات تشدد ظاهرية حول إمكانية الجلوس على مائدة التفاوض مجددًا مع إدارة الرئيس ترامب.
لذلك الأمر تفسيرات عدة أولها أن نظام الملالي معروف بميله الدائم للانحياز لمصالحه و برجماتيته الشديدة ودعونا من الشعارات الأيديولوجية البراقة التي يخصصها النظام ورموزه للاستهلاك المحلي والإقليمي وشحن آذان الملايين من مؤيديه والمتعاطفين معه والمستعدون مبدئيًا لتقبل أي أفكار يتفوه بها قادة الحرس الثوري بشكل خاص ونظام الملالي بشكل عام، وهذه المصالحية الشديدة لابد وأن تكون قد قادت الملالي لإعادة دراسة مواقفهم بشأن التفاوض مع الرئيس ترامب، فالمعطيات تقول أنه رغم المواقف الانفعالية للرئيس الأمريكي وهو من أمر بالانسحاب من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وهو من ينحاز بدرجة غير مسبوقة لإسرائيل، فإنه أيضًا هو من رفض توجيه ضربة لإيران عقب اسقاط الطائرة الأمريكية من دون طيار رغم ما ينطوي عليه الاعتداء الإيراني من إهانة للقوة العسكرية الأمريكية وهيبتها، وهو أيضًا من يراهن حتى الآن بقوة على إمكانية التوصل إلى "صفقة" مع النظام الإيراني، وهو من يراهن عليه النظام الإيراني، وهذا للغرابة، في لجم اندفاع تيار الصقور المتشدد داخل الإدارة الأمريكية وكان في مقدمتهم مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون الذي أقاله الرئيس ترامب بشكل غير مألوف في خطوة قد يكون لها تأثيرات جذرية في فرص الحوار بين الجانبين.
ثاني هذه التفسيرات أن الرئيس ترامب ذاته لا يميل مطلقًا من حيث المبدأ لإصدار قرارات بشأن شن حروب جديدة، فقد جاء للرئاسة رافضًا التدخلات العسكرية الأمريكية المباشرة في مناطق شتى من العالم، وطالما انتقد سياسات أسلافه في هذه الشأن، وقد بدا ذلك واضحًا للجميع في الآونة الأخيرة، حتى أن الرئيس ترامب خاض مفاوضات ماراثونية مع حركة طالبان العدو اللدود للولايات المتحدة، بل كان يزمع عقد اجتماع يضم قادة الحركة في منتجع "كامب ديفيد" تزامنًا مع ذكرى اعتداءات 11 سبتمبر 2011، ولكنه ألغى الاجتماع بسبب هجوم انتحاري تبنته الحركة الأفغانية ضد الحكومة الأفغانية.
ثالث هذه التفسيرات أن الرئيس ترامب يقف على أبواب عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويواجه محاولات حثيثة من الديمقراطيين في الكونجرس لعزله، وهي محاولات محدودة التأثير وشبه خالية من فرص النجاح، ولكنها تقض مضاجع البيت الأبيض، كما أن عام الانتخابات يغل يد الرئيس عن اتخاذ أي قرار بخوض صراع عسكري، حيث يصعب التحكم في مسار ات هذا الصراع مع ما يحمله من عواقب غير مضمونة قد تتسبب في خسارته للانتخابات، وبالتالي من البديهي ألا يقدم أي رئيس أمريكي على خوض حرب في العام الذي يسبق الانتخابات مباشرة، بل إن تاريخ الجولات الانتخابية يشهد بأن الجميع يميل إلى طي ملفات الحروب وتبريد الأزمات والتفرغ لإدارة الانتخابات.
رابع هذه التفسيرات يكمن في الأرضية التي تهيأت بالفعل امام الرئيس ترامب للتوصل إلى اتفاق مع نظام الملالي، فالعقوبات الاقتصادية شديدة التأثير على الاقتصاد الإيراني قد أوصلت الملالي إلى قناعة راسخة بأن المضي في نهج التشدد قد يكون ثمنه غاليًا، وبالتالي بات النظام مهيأ بشكل كبير، من الناحية الفعلية، لقبول تسوية الأزمة مع الولايات المتحدة، بل وللمفارقة مع الرئيس ترامب تحديدًا بكل ما يمتلك من ميل لعقد الصفقات ومرونة تكتيكية تفاوضية تجعل من انتزاع التنازلات منه مسألة واردة بدرجة كبيرة.
التفسير الخامس أن تسوية الأزمة تصب في كفة الرئيس ترامب وترمم علاقاته مع حلفائه الأوربيين الذين باتوا في موقف حرج بين شقي الرحى، ضغوط النظام الإيراني وخطواته التصعيدية بالتخلي عن التزاماته الواردة في الاتفاق النووي من ناحية، وتمسك الرئيس ترامب بنهج العقوبات المشددة على النظام الإيراني من ناحية ثانية، ومن ثم فإن استجابة الرئيس ترامب لوساطات الجانب الفرنسي والجهود الأوروبية قد تكون بمنزلة طوق انقاذ للحلفاء الأوربيين في هذه الأزمة، وستحسب للرئيس ترامب لجهة السعي لتقريب وجهات النظر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين.
التفسير الخامس أن الرئيس ترامب يخشى الاستمرار في محاصرة إيران ودفعها لمزيد من الانخراط في محور مضاد للمصالح الاستراتيجية الأمريكية، بما يضعف قدرة الولايات المتحدة على احتواء التهديد الاستراتيجي الصيني، كما يضعف قدرتها على تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط من دون تدخلات عسكرية.
تفسيرات عديدة تقف وراء تمسك الرئيس ترامب بعروض التفاوض مع نظام الملالي، الذي يقدم خطوة ويؤخر أخرى، ويتعامل كعادته بشكل مناور مع عروض الحوار الأمريكية ويوظفها في إطار انتهازي باعتبارها تراجعًا استراتيجيًا أمريكيًا رغم أن الخاسر الأكثر تضررًا من سياسات الرئيس ترامب وعقوباته المشددة هو الاقتصاد والشعب الإيراني، الذي يبدو الخاسر الخفي الذي يحاول الملالي التغطية على خسائره بألعاب إعلامية ومناورات متفرقة تلعب فيها الميلشيات والأذرع الطائفية التي تمول من أموال الشعب الإيراني، دورًا كبيرًا ومؤثرًا.