يخطئ ملالي النظام الإيراني كثيراً حين يظنون بإمكانية تدجين غضب الشعب العراقي ورغبته في التخلص من الفساد والمفسدين والبحث عن طريق آمن لاستعادة الدولة العراقية ووضعها في مكانها اللائق اقتصادياً وتنموياً، وبما يليق ويتناسب مع مواردها الطبيعية والبشرية وتاريخها وقدرات قوتها الشاملة التي يحاول نظام الملالي الايراني ضمرها تماماً وتجييرها لمصلحة أهداف هذا النظام البائس.
يخطئ الملالي أيضاً عندما يسيئون فهم رسالة الغضب العراقية، رغم وضوحها الذي ينازع في سطوعه سطوع الشمس في ضوء نهار صيف قائظ، فالمتظاهرين الذين حاولوا اقتحام مقر القنصلية الإيرانية في كربلاء والشعارات التي رفعت ضد النظام الإيراني في بغداد ومختلف محافظات العراق منذ بداية الشهر الماضي، تؤكد رفض العراقيين، سُنة وشيعة، هيمنة الملالي على قرار بلادهم، حيث هب الجميع ولم يخش الشباب الرصاص والقنابل التي تلاحقهم في كل مكان حتى بلغت أعداد الضحايا أرقاماً مؤسفة تضاف إلى سجل حافل للثمن الذي دفعه العراقيون من اجل بلادهم في السنوات الأخيرة، ولا ندري كم قتيل وجريح يحتاج الملالي كي يفهموا الرسالة الشعبية العراقية؟!
المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي اعتبر أن غضب العراقيين "شغباً وفوضى" رغم أنه اعتبر الاحتجاجات التي سادت دول عربية عدة في عام 2011 بمنزلة امتداد للثورة الإيرانية، وأن هذه الثورة تلهم المحتجين العرب رغم مرور أكثر من ربع قرن عليها وقتذاك، ولا ندري لماذا توقف الالهام عند حد شعوب ودول عربية بعينها ولم يرى الملالي في غضب العراقيين واللبنانيين ضد الطائفية وفساد السلطة موجة ثانية من الالهام المزعوم؟!
الحقيقة أن النظام الإيراني بات يخشى أن يشرب من نفس الكأس الذي ساعد في تجرع أنظمة عربية عدة منه، حين دعم الايرانيون التنظيمات المتطرفة للاستيلاء على السلطة في بعض الدول العربية، ولكنه الآن بات يشعر من امتداد ألسنة اللهب إلى طهران وبقية المدن الإيرانية.
بالأمس، أشارت تقارير إعلامية إلى أن القوى السياسية الرئيسية في العراق اتفقت على الإبقاء على السلطة الحالية حتى وإن "اضطر الأمر إلى استخدام القوة" لإنهاء الاحتجاجات، كما اتفقت تلك القوى في الاجتماع الذي عقد في بغداد وضم غالبية قيادات الكتل الكبيرة على التمسك بعادل عبد المهدي والتمسك بالسلطة مقابل إجراء إصلاحات في ملفات مكافحة الفساد وتعديلات دستورية. إلى هنا وربما يبدو الخبر عادياً وشأناً داخلياً عراقياً محضاً، ولكن التقارير الإعلامية ذكرت أن الاتفاق جاء بعد "لقاء اللواء قاسم سليماني بمقتدى الصدر ومحمد رضا السيستاني (نجل علي السيستاني) والذي تمخض عنه الاتفاق على أن يبقى عبد المهدي في منصبه"!
السؤال المشروع الذي يمكن أن يطرحه أي عراقي أو عربي غيور في هذا السياق هو: لماذا يحضر الجنرال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اجتماع وصف بأنه "غير مسبوق" كونه ضم جميع قادة الأحزاب والكتل السياسية العراقية، ومنهم السيد مقتدى الصدر، والسيّد محمد رضا السيستاني، وعمار الحكيم، وهادي العامري، ونجل السيّد علي السيستاني، المرجع الديني العِراقي الأعلى، في مسعى استهدف "توحيد البيت الشيعي"؟ ولماذا يقف هذا "التوافق" عند حد دعم الحكومة ولا يمتد ليشمل الاتفاق على إجراءات جادة لمعالجة الأوضاع المعيشية للشعب العراقي والقضاء على مسببات الغضب والاحتجاج؟ ولماذا تعاطى الساسة العراقيون وفق منطق "الطائفية" ذاته الذي أعلن شيعة العراق قبل سُنتهم" رفضهم المطلق له منذ بداية الاحتجاجات بل هو أحد أهم أسباب هذه الاحتجاجات والغضب الشعبي العراقي؟
اللجوء إلى القبضة الحديدية في مواجهة غضب الشعب العراقي ربما ينهي الاحتجاجات، ولكنه لن ينهي أسبابها وستظل مثل النار القابلة للاشتعال في أي لحظة، ويعكس ارتفاع مستوى الخوف والقلق الإيراني من انتقال لهيب الغضب والاحتجاج إلى المدن الإيرانية، كما يعكس قدر النفوذ الذي يمارسه النظام الإيراني على الساسة العراقيون الذين يتصدرون المشهد الراهن.
بعض المحللين يرون أن استخدام القوة للقضاء على الاحتجاجات العراقية قابل للاستنساخ في لبنان، وهذا أمر وارد بالنظر إلى تشابه مواقف النخب، حيث سبق أن أعلن حسن نصر الله زعيم "حزب الله" استقالة حكومة الحريري، متهماً ما وصفه بـ"قوى خارجية" بالدفع باتجاه الفوضى والاقتتال الداخلي، وسواء افضت القوة للقضاء على الاحتجاجات أم لا فإن مراجل الغضب الشعبي ضد النفوذ الإيراني في بعض الدول العربية لم تعد قابلة للتراجع والانحسار والاحتواء، لاسيما أن الأحداث الراهنة قد كشفت سوء نوايا النظام الإيراني وما يضمره من شر ورغبة في استمرار الهيمنة والنفوذ في العواصم التي سبق أن تباهى باحتلالها والسيطرة على صنع القرار فيها.