لا أدرى لماذا تراهن دول الاتحاد الأوروبي على أن نظام الملالي الإيراني يمتلك من العقلانية والرشادة ما يقنعه بالعودة إلى التطبيق الكامل لالتزاماته المنصوص عليها في إطار الاتفاق النووي؟
فرغم كل تجاوزات الملالي لهذه الالتزامات وتهديداتهم المستمرة بمزيد من الخروقات، فإن الثلاثي الأوروبي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) لا يزال يحث الإيرانيين على العودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق، واكتفت فقط بالتلويح بالبحث في "كل الآليات" المتاحة للحفاظ على الاتفاق! وذكرت الدول الثلاث في بيان مشترك صدر مؤخراً "نجدد تأكيد استعدادنا للنظر في كل الآليات ضمن خطة العمل الشاملة المشتركة، بما في ذلك آلية حل الخلافات، لتسوية القضايا المتعلقة بتنفيذ إيران التزاماتها في إطار الخطة. ولا نزال متمسكين بشكل كامل بمواصلة جهودنا الرامية إلى إيجاد حل دبلوماسي في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة".
اللافت أن هذا التحذير، رغم ضعفه الزائد مقارنة بالتهديدات والممارسات الإيرانية، فإن الدول الثلاث قد ضمنت البيان المشترك ترحيباً "حاراً" بقرار حكومات كل من بلجيكا والدنمارك وفنلندا وهولندا والنرويج والسويد بشأن الانضمام إلى آلية "اينستكسINSTEX " للتعاملات المالية مع إيران!
الدول الأوروبية التي انضمت إلى آلية "اينستكس"، التي انشأتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا بداية العام الحالي، قد أعربت هي الأخرى عن "قناعتها" بضرورة التمسك بالاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، مؤكدة أنها بصدد أن تصبح مساهمة في آلية دعم التحويلات التجارية لصالح إيران (إينستكس) والتي من شأنها التخفيف من آثار العقوبات الأمريكية التي فُرضت على طهران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018
المعضلة الكبرى في هذا الأمر أن الاتحاد الأوروبي يعمل في اتجاه مضاد تماماً لجهود الولايات المتحدة الرامية إلى تجفيف منابع تمويل الحرس الثوري الإيراني وخنق قدرة الملالي على تمويل الأنشطة الإرهابية والخطط التوسعية الإقليمية، الأمر الذي يشجع النظام الإيراني على المضي قدماً في تحدي العقوبات الأمريكية، ويحد من فاعلية هذه العقوبات، ولو لجهة التأثير السياسي، كما يوفر للنظام الإيراني الفرصة للعب دور الضحية والادعاء بالمظلومية في مواجهة الشعب الإيراني والعالم!
المؤكد أن الدول الأوروبية تقدم للنظام الإيراني هدايا مجانية في مقابل انتهاكاته للقانون الدولي، حيث ترى في الاتفاق النووي الملىء بالثغرات وأوجه القصور، لاسيما لمحدودية أمده الزمني وتجاهله التعامل مع مجمل القضايا والموضوعات المرتبطة بدور إيران الإقليمي، ترى أنه يمثل "لبنة أساسية في النظام العالمي لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل" رغم أن الاتفاق ذاته قد فتح الطريق امام تطوير إيران لبرامج الصواريخ الباليستية التي لم يتم التطرق إليها في هذا الاتفاق، رغم أن أبجديات الحد من الانتشار النووي تشير إلى ضرورة الربط بين تكنولوجيا التسلح النووي والصواريخ الحاملة لها بأمديتها المختلفة!
الواضح أيضاً أن أوروبا التي لم تبذل ما يكفي من الجهد لبناء رؤية استراتيجية مشتركة مع الجانب الأمريكي حيال إيران، تخضع للابتزاز الإيراني وتشعر بقلق شديد حيال قيام الملالي بالتخلي تدريجياً عن التزامات إيران بموجب الاتفاق النووي! وبدلاً من التصدي بحزم لهذه الانتهاكات بالتنسيق مع الحليف الأطلسي الأمريكي، نجد أن أوروبا تتجه للخضوع للابتزاز الإيراني، رغم أن الملالي لا يكفون عن اتهام أوروبا بالضعف والعجز عن التعامل مع آثار العقوبات الأمريكية على إيران، وهم يقصدون بالطبع ضرورة تسريع وتيرة تفعيل آلية "اينستكس" من جانب أوروبا!
في ضوء تمسك أوروبا بالعمل منفردة في مواجهة الانتهاكات الإيرانية، يبدو من الطبيعي أن يتماديا لملالي في هذا الابتزاز، حيث قال عباس عراقجي، المساعد السياسي لوزير الخارجية الإيراني، أن الاتفاق حول برنامج إيران النووي "في غرفة العناية المشددة"، محملا الجانب الأوروبي المسؤولية عن الحفاظ على "الصفقة"، ولا ندري لماذا يتحمل الجانب الأوروبي فقط مسؤولية الحفاظ على الاتفاق، ولا ارتهانه بالجهود الأوروبية لانقاذه؟!
على أوروبا أن تدرك أن الملالي لا يريدون سوى كسب الوقت حتى نهاية ولاية الرئيس ترامب على أمل أن يخفق في الفوز بولاية رئاسية ثانية، وأن يأتي رئيس أمريكي جديد يعيد تعهدات بلاده ضمن الاتفاق، ما يؤكد أن النظام الإيراني يخشى بالفعل فتح باب التفاوض مجدداً حول الاتفاق النووي، لأن هذا التفاوض يعني توسيع دائرة النقاش لتشمل البرامج الصاروخية والتهديدات الإيرانية الإقليمية لدول الجوار.
في التعليق على الموقف الأوروبي في هذا الشأن، يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي أن "دولاً أوروبية تحاول تجاوز العقوبات الأمريكية على إيران"، معتبراً أنها "لا تتعلم من التاريخ وعليها أن تخجل من نفسها"، ولكن الموضوعية تقتضي القول إن أوروبا لا تستهدف تجاوز العقوبات الأمريكية ولا تسعى لإفشالها بل ويمتلك الجانبان رؤية متقاربة حول حجم التهديدات الاستراتيجية الناجمة عن سلوكيات النظام الإيراني، ولكن الخلاف يبقى في الرد على هذه التهديدات، وهو خلاف يمثل جزءاً من خلافات عديدة باتت تباعد المواقف بين حلفاء الأطلسي، والنتيجة أن أوروبا باتت تعمل في مسار منفصل عن المسار الأمريكي، وهذا بحد ذاته يتسبب في بناء هوة واسعة تشجع إيران على استغلال هذا الشقاق الأمريكي ـ الأوروبي، وتعمل على توسيعه والاستفادة منه في تحقيق أهدافها الاستراتيجية؛ ومن ثم فإن على الدول الأوروبية الانتباه من أن قدرتها على إخراج الاتفاق النووي من غرفة "العناية المشددة" كما وصفها عراقجي، لن تكون أكثر فاعلية في حال تشغيل آلية "اينستكس"، بل إن هذا الموقف قد يغري الملالي بمواصلة استفزاز الجانب الأمريكي كما حدث غير مرة في الأشهر الفائتة، ما يضع الأمن والاستقرار الإقليمي في حالة من القلق المستمر.
التوافق الأوروبي ـ الأمريكي، ومن ثم الدولي، يجب أن يكون حجر الزاوية في التعاطي مع الإرباك الناجم عن سلوكيات النظام الإيراني سواء على الصعيد العسكري، أو فيما يتعلق بخطر التسلح النووي والتمدد الاستراتيجي الإقليمي.