منذ الاعلان عن اقامة علاقات ثنائية بين الامارات وإسرائيل، لم يترك القادة والمسؤولون الايرانيون أي وقت لانشغالاتهم المفترضة بهموم شعبهم ـ وهي كثيرة وبالغة التعقيد وتتطلب جل وقتهم ـ بل استفاضوا وبالغوا في الظهور إعلامياً وإطلاق التصريحات والتهديدات تجاه دولة الامارات، وكان المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي في صدارة هؤلاء القادة، حيث وصف قرار الامارات بـ "الخيانة"، وقال خامنئي في كلمة نقلها حسابه على "تويتر" إن "الإمارات العربية المتحدة خانت العالم الإسلامي، والشعوب العربية، وبلدان المنطقة وفلسطين أيضا، طبعاً لن تستمر هذه الخيانة طويلاً، لكنّ وصمة عارها ستبقى على جباههم". وهذه الكلمات والمزاعم والاتهامات الباطلة تجد صداها وتتكرر في جميع تصريحات المسؤولين الايرانيين حول الموضوع ذاته، وهي تعد نموذج صارخ للاعتداء على حق سيادي لدولة جارة، وانتهاك لكل القوانين والأعراف والقوانين الدولية التي تقر مبدأ السيادة الوطنية للدول.
يهاجم ملالي إيران الامارات بضراوة لأنها عقدت اتفاق علاقات ثنائية مع إسرائيل، وينتقدون التعاون مع الاسرائيليين و"الأيادي الأمريكية الخبيثة" مع أن الملالي أنفسهم يتسولون ليل نهار عودة الإدارة الأمريكية إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015، والذي كان ثمرة لمفاوضات ماراثونية مع هذه "الأيادي الخبيثة"! والكل يدرك تماماً أن ملالي إيران ليس لديهم أي موانع تذكر في الجلوس على طاولة التفاوض مع الولايات المتحدة، والأمر ليس استنتاجاً ولا توقعاً فالرئيس حسن روحاني تحدث منذ أيام قلائل عن عدم وجود مانع في التفاوض مع واشنطن في حال عادت للاتفاق النووي، والكل يدرك أيضاً أن الرئيس ترامب لا يمانع كذلك في التفاوض ولكن شريطة أن يأتي إليه الملالي راضخين لشروطه ومطالبه.
أما عن موقف الملالي تجاه القضية الفلسطينية فهو من المضحات المبكيات، باعتباره نموذجاً صارخاً للزيف والخداع والمتاجرة بآلام الشعوب وقضاياها، إذ يؤكد البحث في سجلات التاريخ ـ بموضوعية وأمانة ـ أن ملالي إيران لم يقدموا منذ قيام ثورتهم عام 1979، أي شىء يذكر للشعب الفلسطيني سوى التصريحات العنترية والكلمات الجوفاء، بل كانت القضية الفلسطينية بمنزلة "حصان طراودة" للتقارب مع العالم العربي والاسلامي؛ فالحقيقة أن القضية الفلسطينية هي من أبرز "الأدوات الترويجية" التي يوظفها الملالي في إطار مايعرف خداعاً ب"محور المقاومة"، ولا أحد يدري هوية الطرف الذي يقاومه هذا المحور الذي يعيث فساداً في العراق وسوريا واليمن ولبنان من دون أن يقترب قيد أنملة من الأراضي الفلسطينية المحتلة!
والحقيقة أيضاً أن ملالي إيران يقدمون أموالاً طائلة لتنظيمات فلسطينية مثل "حماس" وغيرها، ولكن هذه الأموال لا تذهب للشعب الفلسطيني، بل تمول مشروع إيران الاقليمي التوسعي، الذي كان يهدف إلى تمكين تنظيم الإخوان المسلمين الارهابي من السلطة في دول عربية عدة، كما تهدف هذه الأموال إلى الابقاء على قوة هذه التنظيمات العنفية والتسليحية لاستخدامها لاحقاً كورقة تفاوض لانتزاع اعتراف دولي بنفوذ ايران الاقليمي في الشرق الأوسط، والأمر ليس متعلقاً أبداً بتحرير القدس ولا الأراضي الفلسطينية لأن الملالي يدركون أن هذه التنظيمات ليست سوى "مخالب قط" تعمل بالوكالة لمصلحتهم وليس لمصلحة الشعب الفلسطيني.
"حماس" ذاتها وبقية التنظيمات الفلسطينية الممولة من ملالي إيران تدرك هذه الحقائق، ولكنها تنطلق من حسابات براجماتية، وتغلب مصالحها الذاتية الضيقة على مصلحة الشعب الفلسطيني، الذي يفترض أنها تدافع عنه، وإلا فليخبرنا أحدهم عما حققت "حماس" مثلاً للشعب الفلسطيني منذ أن احتكرت السلطة في قطاع غزة، سوى تقسيم الفلسطينيين وانقسامهم؟
وليس لدي شك في أنه من دون نفوذ قوي في دول عربية مثل لبنان واليمن وسوريا والأراضي الفلسطينية وغيرها لم تكن إيران تستطيع أن تنتزع الاتفاق حول برنامجها النووي مع القوى الكبرى بمثل تلك الشروط المطاطة التي دفعت الرئيس ترامب للانسحاب منه؛ فمن المعروف أن هذه التنظيمات هي، في النهاية، أوراق تفاوضية مهمة بحكم سيطرة إيران عليها ومقدرتها على التحكم في قراراتها وتوجيه خطرها صوب من تشاء وإسكاتها وقت ما تريد وتحريكها وقت ما ترغب، والزعامات التلفزيونية مثل حسن نصرالله وغيره يوفرون للملالي "البضاعة" التي يريدونها وقت الطلب سواء من خلال تصريحات وتهديدات ضد هذا أو ذاك، أو من خلال عمليات يدفع ثمنها الكثير من الضحايا والواهمين الذين يعتقدون أنهم يشاركون في أعمال بطولية ويدافعون عن قضايا حقيقية!!
أما عداء ملالي إيران لإسرائيل فاعتبره ـ شخصياً ـ من أكبر خدع الدعاية السياسية في العصر الحديث، والأمر في ذلك لا يحتاج مني لدلائل وبراهين واثباتات، فالدراسات والوثاثق التاريخية بل وصفحات ومواقع "الانترنت" تعج بالكثير من الحقائق والأدلة الموثقة حول علاقات الملالي بإسرائيل، لاسيما في المجال العسكري ومبيعات الأسلحة والأمر ليس سراً في مجمله ولا يحتاج للتعرف على تفاصيله المعلوماتية جهد كبير!
ونستشهد هنا بآراء باحثين غربيين ـ كي لا نتهم بالتحيز ضد الملالي ـ حيث يقول المحلل الفرنسي المتخصص في الشأن الإيراني، تيري كوفيل، أن علاقات إسرائيل وإيران تاريخية، مشككاً في أن يكون ذلك الصراع حقيقياً، ويقول إن "تصاعد نغمة التصعيد بين البلدين لن يؤدي إلى صراع حقيقي"، مشيراً إلى أن كلا البلدين ليس بينهما أي تاريخ دبلوماسي عاصف. ، ويوضح كوفيل أن نعت سلطات الملالي إسرائيل بـ"الكيان الصهيوني"، ما هو إلا معارضة ظاهرية حتى يومنا هذا، مؤكداً أن هذا القول ليس بجديد "فالجميع داخل إسرائيل وإيران يعرف أن كلا الطرفين لا يعتبر الآخر عدوا". ويرصد الباحث الفرنسي عدة وقائع في تاريخ العلاقات الإسرائيلية- الإيرانية، مشيراً إلى أن إسرائيل باعت أسلحة لإيران خلال الحرب الإيرانية العراقية، وتابع: "هذه التصريحات بين البلدين، نوع من استعراض ميزان القوى". ويرى كوفيل إن "المليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا، تهدف لأن تكون جزءاً من التكوين السياسي لمستقبل سوريا كما فعلت في العراق، ولكن لا تريد حقاً أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل، والدليل على ذلك أن إيران لم تنشئ أبداً أي خطة عسكرية لقتال إسرائيل" والأهم أنه يقول إن "كل الخطط الحربية والعسكرية التي تجريها إيران موجهة إلى جيرانها من دول الخليج والدول السنية في المنطقة وليست إسرائيل".
لن اتطرق هنا إلى ما تحدثت عنه صحف اسرائيلية في أوقات سابقة حول دلائل قوة العلاقات السرية بين الملالي وإسرائيل، وما تحدث عنه وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو في مذكراته حول التعاون العسكري بين نظام الملالي واسرائيل خلال فترة الحرب العراقية الايرانية والكثير والكثير من التفاصيل المهمة، التي يمكن لمن يريد التعرف عليها في هذه المذكرات. وعلى الجانب الآخر كان وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو بن عامي يقول مطالباً بدمج إيران في نظام أمني اقليمي : "إيران لا يدفعها هوس بتدمير إسرائيل، وإنما إصرارها على المحافظة على نظامها وتثبيت نفسها كقوة إقليمية استراتيجية إزاء إسرائيل والدول العربية".
الملالي يخشون قوة الدول العربية المجاورة وامتلاكها قوة ردع ودفاع ذاتي قادرة على حماية مقدرات ومكتسبات شعوب هذه الدول من الخطر والتهديد الايراني المستمر، ولذا فهم دائمي الاعتراض على علاقات التعاون العسكري بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة، ويخشون أن تمتد علاقات هذه الدول مع اسرائيل إلى تعزيز قوتهم الدفاعية، ورغم أن مثل هذه الأمور تندرج ضمن القرارات السيادية للدول في علاقاتها وتعاونها مع الآخرين، فإن ملالي إيران يريدون ممارسة نهج الوصاية على شوؤن منطقة الخليج العربي، لذا نجد منهم هذا التنمر السياسي وتلك التهديدات السخيفة، التي تعبر عن نواياهم السيئة تجاه جوارهم الخليجي والعربي.