ليس مفاجئاً أن يصبح الملف النووي الايراني هو أحد أهم شواغل الإدارة الأمريكية الجديدة منذ تولي الرئيس جو بايدن منصبه في العشرين من يناير الماضي، كونه يعتبر أن الأزمة الاقليمية المرتبطة بهذا الملف تمثل أخطر مصادر تهديد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وهذا صحيح تماماً، ولكن يبقى تباين الآراء حول سبل التعاطي مع هذا الخطر، ولاسيما فيما يتعلق بالموقف الأمريكي حيال الاتفاق النووي الذي تم توقيعه بين نظام الملالي الايراني ومجموعة "5+1" في عام 2015.
ومن خلال متابعتي الدقيقة للأحداث والتطورات العالمية في بعدها الاستراتيجي، استطيع القول من دون مواربة أن الأسبوع الفائت هو أسبوع النووي الايراني بامتياز، حيث تقاطرت الآراء وردود الأفعال والتفاعلات حول هذا الموضوع بوتيرة سريعة للغاية، وفي هذا الإطار يمكن رصد ملاحظات عدة أهمها أن إدارة الرئيس بايدن ـ وكما توقعت في مقالات سابقة ـ لن تبادر بمنح الملالي صكاً على بياض للعودة إلى الاتفاق النووي، بل هذه العودة لن تكون سهلة ولا مجانية بالمرة كما تخيل الكثيرون، ومايحدث هو العكس تماماً، حيث تضع إدارة الرئيس بايدن شرطاً تلو الآخر قبل اتخاذ هذا القرار الحيوي، في تكتيك تفاوضي يستهدف كسب الوقت وإنهاك الملالي الذين يجيدون انهاك خصومهم، ولكن فريق الرئيس بايدن يفترض أنه اكتسب الخبرة الكافية للتعامل مع عقلية المفاوض الايراني، وهذا ما يتجلى في الشروط التي تضعها واشنطن، والتي تحقق أهداف لا تقتصر فقط على الهدفين السابقين وإنما تحقق أغراض أخرى مهمة مثل توفير الوقت المناسب للإدارة الجديدة للتعامل مع أولويات داخلية وخارجية لا تقل إلحاحاً، وربما تفوق، والتنسيق بشكل جيد مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين والشرق أوسطيين وصولاً إلى صيغة توافقية، فضلاً عن الانتظار حتى انتهاء انتخابات الرئاسة الايرانية المقررة منتصف العام الجاري، والتفاوض مع رئيس إيراني جديد، باعتقاد انه سيكون منفتحاً على تحقيق انتصار سياسي يفتتح به سنوات رئاسته، خصوصاً أن الشواهد جميعها تؤكد أن الرئيس حسن روحاني بات يميل إلى التشدد في الآونة الأخيرة، رافضاً تقديم أي تنازلات من أجل إحياء الاتفاق النووي وتوفير الظروف الملائمة للعودة الأمريكية المزمعة إليه. والمؤكد أن علامات تشدد روحاني ليست مستغربة كونه ينهي فترة رئاسته الثانية في غضون أشهر، ولن يكون مرحباً بتقديم تنازلات تعرضه لانتقادات حادة من جانب معارضيه، فضلاً عن تضعضع نفوذه السياسي وتضاءل قدرته على اقناع المرشد الأعلى خامنئي بتوفير أي هامش مناورة له على هذا الصعيد، حيث يٌعتقد أن خامنئي يميل إلى الدفع بشخصية متشددة لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة على أمل انتزاع تنازلات أكبر من الولايات المتحدة والقوى الكبرى، وذلك في إطار لعبة توزيع الأدوار التي تجيدها مؤسسة ولي الفقيه في المراوحة بين من يصنفهم الغرب إصلاحيين ومحافظين سواء على كرسي الرئاسة أو غيره من المناصب القيادية في نظام الملالي.
على الخلفية السابقة تطرح تساؤلات عدة مثل: طالما أن الولايات المتحدة لم تبادر للعودة إلى الاتفاق النووي فماهو سر تصاعد التهديدات الاسرائيلية، والتلويح المتكرر بضرب المنشآت النووي الايرانية؟ وهنا يمكن الاشارة إلى نقاط عدة أولها أن التكتيك التفاوضي الأمريكي يمكن أن ينطوي على محاذير خطيرة بالفعل مثل مواصلة الملالي انتهاك بنود الاتفاق النووي ولاسيما فيما يتعلق بمعدلات تخصيب اليورانيوم، وصولاً إلى عتبة الجاهزية لانتاج سلاح نووي في غضون أشهر معدودات، وهو احتمال قائم تشير إليه مصادر إسرائيلية عديدة، ويصعب نفيه أو استبعاده في ظل غياب الرقابة الدقيقة والمستمرة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الأنشطة النووية الايرانية، فضلاً عن أن "اطمئنان" الملالي لنوايا إدارة الرئيس بايدن والعراقيل التي تحول دون افتراض اقدامها على خوض حرب مفاجئة ضد إيران، يجعل السيناريو وراداً بنسبة ما. وثاني هذه النقاط أن الملالي ربما يعتزمون تسريع وتيرة أنشطتهم النووية وترسيخ واقع استراتيجي جديد يؤخذ بالاعتبار عند الجلوس على مائدة التفاوض سواء كان الهدف توسيع إطار الاتفاق النووي القائم أو البحث عن إطار تفاوضي بديل، حيث يمكن وقتذاك انتزاعم مكاسب وتنازلات جديدة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بدلاً من تحقق الهدف المعاكس، وهو لجم الطموحات النووية والعسكرية الايرانية! والأخطر من هذا وذاك أن وصول الملالي إلى مستويات قياسية في تخصيب اليورانيوم سيضاعف العقبات الاستراتيجية والعملياتية أمام تنفيذ سيناريو تدمير المنشآت النووية الايرانية، بل ربما يجعل هذه الفكرة مستبعدة تماماً، ويصبح على الجميع التعامل مع واقع إيران نووية، وهذا هو السيناريو الكارثي الذي يخشاه الجميع في المنطقة والعالم.