يدرك أي متابع للتطورات التي يشهدها الملف اليمني طيلة السنوات الماضية أن ملالي إيران يقفون حجر عثرة في طريق تحقيق أي تسوية سياسية تنهي الأزمة اليمنية، ويرهنون هذه التسوية بأزمة الملالي مع الولايات المتحدة حول الملف النووي الإيراني، فاليمن وبقية التدخلات العسكرية في دول عربية عدة هي بنظر الملالي أوراق ضغط، أعدوا جيدًا لاستخدامها في التفاوض حول مجمل القضايا ذات الصلة بإيران، إقليميًّا ودوليًّا.
ولا شك أن التهديدات الحوثية المتزايدة التي تطول المنشآت النفطية بالمملكة العربية السعودية هي أحد المظاهر البارزة لتصاعد الدور والرغبة الإيرانية في تسخين أجواء الأزمة اليمنية من أجل الضغط على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتقديم تنازلات في إطار الرسائل المتبادلة بين الطرفين خلال المرحلة الراهنة؛ إذ لا يمكن -منطقيًّا- ربط هذه التهديدات بالحوثيين فقط؛ لأنهم في حقيقة الأمر ليسوا سوى أداة تنفيذية وواجهة لمخطط طائفي توسعي، يفوق طاقاتهم وقدراتهم وإمكاناتهم اللوجستية والتسليحية والبشرية، وأن الفاعل والمدبر وصاحب المصلحة الحقيقي في ذلك هم ملالي إيران، الذين يأمرون بتوجيه صواريخهم إلى مدن ومنشآت نفطية سعودية في آن، ويأمرون بتوجيهها إلى قواعد عسكرية عراقية تتمركز بها القوات الأمريكية في آن آخر؛ فالآمر واحد، والأيدي المنفِّذة تختلف في اليمن والعراق وسوريا ومناطق أخرى عديدة.
والحقيقة إن تمادي الحوثيين في الاستقواء بإيران، وحرص الأخيرة على الاستفادة لأقصى مدى بالورقة الحوثية، يمثل انعكاسًا جليًّا لعجز المجتمع الدولي وانقسامه الحاد في التعامل مع هذه الأزمة كما في غيرها؛ فالميليشيات الحوثية التي تتحدى القوانين والشرعية الدولية، وتستعرض ترسانة الصواريخ والطائرات المسيّرات التي حصلت عليها من الحرس الثوري الإيراني، تدرك أن النظام العالمي القائم يعاني حالة غير مسبوقة من الفوضى والسيولة وغياب الإرادة، وأن استمرارها في تهديداتها حتى الوصول إلى منشآت تخزين النفط والموانئ الرئيسية لتصديره في المملكة لن يحدث ردة فعل دولية تتناسب مع حجم التهديد وارتفاع مستوى خطورته.
من المعروف أن أمن الطاقة ظل يمثل أحد الخطوط الحمراء للقوى الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لعقود وسنوات مضت؛ إذ كان أي تهديد يواجَه بحزم وصرامة بالغة أيًّا كان مصدره ونوعيته وطبيعته، ولكن الحاصل الآن أن هذه التهديدات باتت متكررة وشبه يومية تقريبًا، ولا تقابل سوى بإدانات واستنكار دولي، لا يتناسب مع مستوى خطورتها وتأثيراتها السلبية الخطيرة.
المؤكد أن ما يحدث اليوم هو نتاج ردات فعل الأمس؛ فالصمت والعجز الدولي الذي قوبلت به الهجمات التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية في عام 2019، التي ثبت بأكثر من دليل وبرهان تورط النظام الإيراني فيها، قد شجع نظام الملالي على تكرار فعلته بعد أن اختبر إرادة القوى الكبرى، ولم يجد ردًّا مناسبًا بل إن إدارة الرئيس بايدن قد قامت بإلغاء تصنيف جماعة الحوثي من قوائم الإرهاب الأمريكية، فما كان من الميليشيا سوى الرد بتصعيد هجماتها، وإلقاء قفاز التحدي في وجه الجميع!
أعتقد أن أحد أبرز أسباب هذا التحدي هو يقين الملالي بأن خيارات البيت الأبيض باتت تنحصر في التفاوض ثم التفاوض، ولا شيء غير ذلك؛ وبالتالي فقد آن أوان سقوط الأقنعة في الصراع الدائر في اليمن، وعلى الجميع الاعتراف بأن الحوثيين ليسوا سوى واجهة لملالي إيران، وأن ميليشياتهم هي ميليشيات إيرانية التسليح والتخطيط والتدريب والعتاد، وأن قرار التهدئة والتصعيد يأتي موقعًا من قادة الحرس الثوري، ومن ثم فإن سيناريوهات هذه الأزمة ليست في صنعاء مطلقًا، والقرار الفعلي بشأن إدارة الصراع بيد ملالي إيران.
الاعتراف بهذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس مسألة مهمة لأسباب عدة، أولها قراءة الواقع، واستشراف الخطوات المقبلة بشكل أفضل، فالتهديدات الصاروخية التي ينفّذها الحوثي لا علاقة لها بالحرب، بل تستهدف بالأساس تصفية الحسابات الإيرانية مع المملكة، والسعي لتفكيك التحالف السعودي - الأمريكي من خلال تشكيك القيادة السعودية في جدية الحليف الأمريكي في حماية أمن المملكة واستقرارها، وهو هدف استراتيجي إيراني قديم/ جديد، يحاول الملالي من خلاله الضغط باتجاه انسحاب القوات الأمريكية من منطقة الخليج العربي، وتركها ساحة مستباحة للنظام الإيراني.
الحقيقة أيضًا إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تفطن لخطورة مخطط الملالي بشأن الوقيعة بين الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين، بل إن هناك حالة من العجز وغياب البدائل والردود المناسبة على انتهاكات الملالي المتكررة لإحدى أهم ركائز السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط بشكل عام، ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص؛ فالتهديدات التي يتعرض لها أمن الطاقة وسلامة الممرات البحرية واقع لا تخطئه عين مراقب، في حين تكتفي واشنطن بانتظار استجابة الملالي على عروض التفاوض المقدمة لهم، سواء بشكل مباشر أو من خلال وسطاء دوليين!
الشواهد تقول إن أسس التحالف القائمة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون تتعرض لاختبار صعب ومعقد، يفرضه السلوك الإيراني. وأعتقد أن استمرار التهديد الحوثي بتوجيهات من ملالي إيران ينذر بتفاقم الفوضى، ويهدد بتصاعد خطير للأزمة، وآن الأوان لإثبات جدية الولايات المتحدة في الوفاء بالتزاماتها المعلنة تجاه حلفائها الخليجيين، وبخلاف ذلك فإن الأمور ستزداد تعقيدًا.