تساؤلات كثيرة تدور بين المراقبين والمتخصصين حول غموض الموقف الأمريكي ـ الأوروبي حيال انتهاكات ملالي إيران للقانون الدولي، ولاسيما عقب استهداف ناقلة نفط اسرائيلية في مياه بحر العرب مؤخراً؛ ووسط هذا الغموض ذكر تقرير نشره موقع "ديبكا" أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لن تسمح لإسرائيل بمهاجمة إيران حتى لو تعرضت لهجوم من قبلها أو من جانب حلفائها (إيران)، وبرر تقرير الموقع ذلك بأن الولايات المتحدة تخشى أن يتسبب هجوم اسرائيلي محتمل على إيران في تخريب آفاق التوصل إلى اتفاق لاحياء الاتفاق النووي الايراني. والواضح أن التقرير استند في استنتاجاته هذه إلى أن الحكومة الاسرائيلية قد التزمت بالرجوع إلى واشنطن قبل اللجوء إلى أي عمل عسكري ضد إيران، وأن تحول رئيس الوزراء السابق إلى المعارضة قد عزز ثقة البيت الأبيض بِشأن عدم قيام اسرائيل بأي عمل من دون استشارة الحليف الأمريكي.
ولاشك أن تحليل معطيات الأزمة المحتدمة منذ الهجوم الذي تعرضت له ناقلة النفط "ميرسر ستريت"، التي تقوم بتشغيلها شركة اسرائيلية، والذي تسبب في مقتل شخصين، حارس أمن بريطاني وقبطان السفينة روماني الجنسية، يشير هذا التحليل إلى أن الولايات المتحدة لن تتسرع بالفعل في معاقبة ملالي إيران على هذا الهجوم رغم تأكيدات وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بشأن وجود دلائل قوية مؤكدة على تورط الحرس الثوري الايراني في هذا الهجوم، ولكن ذلك لا يعني بالمقابل أن اسرائيل كان يمكن أن تبادر للرد على الهجوم الايراني بشكل منفرد، ومن دون التنسيق مع الحليف الأمريكي سواء في عهد حكومة نتنياهو السابقة، أو في عهد الحكومة الحالية التي يرأسها نفتالي بينيت، والتي تدرك تماماً أن أي تخاذل في التصدي للتهديدات الايرانية قد يكلف قادة الحكومة مستقبلهم السياسي.
قناعتي، أنه لا تعارض بين رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في ممارسة المزيد من الصبر الاستراتيجي لحين التيقن من مصير الاتفاق النووي وحسم مسألة القدرة على إحيائه من عدمه، في ظل قناعتها الراسخة بأن الاتفاق هو السبيل الوحيد لتأخير حصول نظام الملالي على قدرات نووية تسليحية، وبين موقف الحكومة الاسرائيلية في عدم إفساد خطط الحليف الأمريكي طالما أنه يبدي التزاماً قوياً صارماً ومتجدداً حيال ضمان أمن اسرائيل، ولكن هذا كله لا ينفي أن تأخر الرد على انتهاكات نظام الملالي يصب في مصلحة اسرائيل أيضاً لأسباب واعتبارات عدة أولها أنه يوفر لها ورقة قوية للحصول على المزيد من المكاسب من الولايات المتحدة في هذا الملف أو غيره من الملفات، لاسيما فيما يتعلق باستمرارية التنسيق والتشاور المسبق بشأن مايحدث وراء كواليس الجولة المقبلة في مفاوضات فيينا، وضمان ألا تتسرع واشنطن في منح الملالي تنازلات لا توافق عليها إسرائيل.
هناك مكسب اسرائيلي مهم للغاية أيضاً في حال صحة افتراض التجاوب مع مطلب أمريكي بشأن إرجاء معاقبة نظام الملالي على انتهاكاته للقانون الدولي، ويتعلق بمنح القادة والمسؤولين الاسرائيلية المزيد من الوقت للتخطيط الجيد والدقيق لتنفيذ عملية عسكرية تستهدف توجيه ضربة مؤثرة للملالي مع ضمان تحجيم قدرة وكلاء إيران المحيطين بإسرائيل على الرد وتوجيه ضربة انتقامية مضادة قد تؤثر سلباً في شعبية الحكومة الاسرائيلية، وربما تضطرها لخوض حرب مفتوحة مع "حزب الله" اللبناني على سبيل المثال، ما يلفت الانتباه إلى ضرورة منح التنسيق مع الحليف الاستراتيجي الأمريكي أولوية قصوى بالنظر إلى "التوابع" المتوقعة لهذا القرار، لاسيما في ظل حداثة تولي إبراهيم رئيسي الحكم في إيران بما عُرف عنه من تطرف وتشدد وميل للصدام والتهور.
ثمة اعتبار آخر هو أن الأطراف المعنية بأزمة الهجوم على ناقلة النفط الاسرائيلية (بريطانيا واسرائيل ورومانيا بشكل مباشر والولايات المتحدة بشكل غير مباشر بحكم التزامها القوي بأمن الحليف الاسرائيلي) اتفقت منذ وقوع الهجوم الايراني على السفينة بضرورة الرد بشكل جماعي، واعتقد أن مثل هذا السيناريو هو الأقوى والأكثر موائمة من وجهة نظر القانون الدولي، ولكنه يتطلب كذلك حصر القرائن والأدلة المؤكدة على تورط نظام الملالي، وهذا قد يتطلب بعض الوقت لـ "بناء قضية" في هذا الشأن.
في حسابات التخطيط الاستراتيجي، يمكن القول بمنتهى الموضوعية أن وضع نظام الملالي تحت ضغط انتظار الرد العسكري على انتهاكاتهم قد يكون له أقوى الأثر في تقديم تنازلات خلال أي جولة تفاوضية مقبلة بشأن الاتفاق النووي، علاوة على أن فشل المفاوضات رسمياً سيوفر فرصة قوية لتوجيه رد أقوى نتيجة للتخلي عن أي حسابات أو تحوطات، ولكن هذا لا ينفي أيضاً احتمالية أن يغري التردد والانتظار، نظام الملالي بارتكاب المزيد من الحماقات بفعل سوء الفهم أو الحسابات الخاطئة أو لإدراك الملالي أن اسرائيل ستبقى مكبلة الأيدي عن الرد عسكرياً على أي اعتداءات بحقها حتى حسم مصير مفاوضات فيينا، لذا لابد من أن تكون "الرسالة قوية وواضحة" للملالي بأن الرد قادم لا محالة، وهذا ما اعتقد أن رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت من خلال تصريحاته في الآونة الأخيرة.