لا اعتقد أن هناك حماقة سياسية تفوق تلك التي يمتلكها الشخص الذي اتخذ قرار الهجوم على ناقلة النفط الاسرائيلية التي كانت تبحر في المياه الدولية قبالة سواحل سلطنة عمان، مؤخراً، فكل معطيات القرار لا توفر سبباً منطقياً واحداً للموافقة عليه، حتى أن العمليات السرية التي ينفذها الملالي ضد اسرائيل، وكذلك سياسة "حافة الهاوية" ولعبة "عض الأصبع" التي يمارسونها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، تحتاج إلى توقيتات مناسبة لتنفيذ خطواتها، في حين يلحظ الجميع أن قرار الهجوم على السفينة الاسرائيلية قد جاء في توقيت قاتل بالنسبة لنظام الملالي، ولا يعبر سوى عن جهل بالبيئة الاقليمية والدولية، ورغبة طائشة في تدشين مرحلة عنوانها التصعيد والصراعات الخشنة المباشرة بين إيران من ناحية والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية ثانية.
قناعتي أن فهم أبعاد هذه العملية التي أكد وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن أن "الولايات المتحدة واثقة من أن إيران هي التي نفذت الهجوم على السفينة الإسرائيلية قبالة سواحل سلطنة عمان"، متعهدا بـ"الرد المناسب"، ولاشك أن تعبير الوزير الأمريكي عن هذا المستوى من الثقة "بعد مراجعة المعلومات المتاحة" بحسب قوله، هذا الفهم يضع الولايات المتحدة وشركائها واسرائيل، بطبيعة الحال، باعتبارها الطرف المعتدى عليه في هذه الحالة، يضعهم جميعاً في مواجهة مسؤولية الرد على هذا السلوك العدواني الذي يهدد الملاحة في الممرات البحرية الدولية، ويضع المزيد من التحديات والأزمات أمام حركة النقل والتجارة الدولية التي تعاني بشدة منذ بداية تفشي جائحة "كورونا".
الوزير الأمريكي أشار إلى أن بلاده تتشاور مع دول داخل المنطقة وخارجها بشأن ماوصفه بـ "الرد المناسب"، مشيراً إلى أنه سيكون "وشيكاً"، وأنه سيكون "جماعياً"، وهذا يعني أنه لن يكون رداً أمريكياً أو اسرائيلياً منفرداً، وأن هناك تحالف جماعي سيقوم بالرد على الانتهاك الايراني لقوانين الملاحة الدولية، والأرجح ألا يأتي الرد سياسياً بل سيكون من نفس النوع، أي رد عسكري، لأن توقيع المزيد من العقوبات على ملالي إيران لن يحقق هدف الردع في هذه الحالة، علاوة على أن إدارة الرئيس بايدن تسعى لترسيخ فكرة القدرة على الردع الحاسم والسريع في مواجهة الاعتداءات التي تستهدف مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها المقربين، ولاسيما اسرائيل، علاوة على أنها لا تريد الظهور في أول اختبار لها بمظهر المتخاذل عن دعم الحليف الاسرائيلي والدفاع عنه في مواجهة التهديد الايراني، فضلاً عن أن الحكومة الاسرائيلية برئاسة نفتالي بينيت لا تريد أيضاً منح الفرصة لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو لاتهامها بالضعف والتراخي وعدم القدرة على التصدي للتهديدات الايرانية.
هناك عوامل واعتبارات أخرى تغذي فكرة الرد بصرامة على السلوك العدواني الايراني، منها رغبة الأطراف الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة، في استغلال هذا الخطأ الايراني الفادح في تعزيز الموقف التفاوضي الغربي في حال العودة لاستنئاف مفاوضات فيينا بشأن البرنامج النووي الايراني، حيث توقفت المفاوضات عند الجولة السادسة عند حزمة من الشروط الايرانية الصعبة التي آثرت واشنطن تأجيل مناقشتها بانتظار تولي الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي منصبه؛ بمعنى أن الولايات المتحدة وحلفائها قد يحاولون استغلال الفرصة لإرسال رسالة ردع أقوى بعد فشل رسائل أمريكية سابقة تمت رداً على استفزازات إيرانية في العراق، في تحقيق أهدافها، ربما لكون رسائل الردع جاءت أقل من سقف التوقعات الايرانية ما تسبب في تمادى الملالى في سلوكهم العدواني.
اللافت أن الاعتداء الايراني على السفينة الاسرائيلية لم يكن الأول من نوعه، ولكن رد الفعل الاسرائيلي والأمريكي عليه جاء أقوى مما سبق لأسباب لها علاقة بما سبق، أو لأن الهجوم الايراني قد نُفذ هذه المرة بسلاح نوعي بات يثير قلق الجانب الأمريكي على وجه التحديد، وهو الطائرات الايرانية المسيرّة، التي سبق استخدامها في شن العديد من الهجمات بالغة الخطورة من دون رد فعل دولي مناسب، مثلما كان الحال في الاعتداء على منشآت "أرامكو" النفطية في ابقيق بالمملكة العربية السعودية بطائرات إيرانية مسيرّة في سبتمبر عام 2019، والادعاء بأنه هجوم نفذته جماعة "الحوثي" اليمنية، وهو سيناريو لا يزال يتكرر بشكل أو بآخر ويمثل تهديداً خطيراً لأمن الطاقة العالمي.
النقطة الحاسمة، أو التي حسمت الموقف الغربي في الاعتداء الايراني الأخير على السفينة الاسرائيلية، برأيي، تنطلق من تفاقم خطر الطائرات المسيرّة الايرانية، ولاسيما أن التقارير الأمريكية المتخصصة تشير إلى أن إيران أصبحت من بين أول 5 دول في العالم تصنع وتشغل الطائرات المسيرّة بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والصين والمملكة المتحدة، وأن نظام الملالي يمتلك طائرات من هذا النوع قادرة على تنفيذ هجمات بعيدة المدى مثلما حدث مرات عدة آخرها الهجوم على السفينة الاسرائيلية، ومنها طائرات قادرة على تنفيذ هجمات بالقنابل والصواريخ والعودة إلى قواعدها، وأخرى تقوم بتنفيذ عمليات أحادية ذات طابع انتحاري تستهدف تدمير أهداف حيوية. والخطر الذي يترتب على التكنولوجيا الايرانية في هذا المجال مزدوج كونها تستخدم بمعرفة ميلشيا الحرس الثوري الذي قام بتوظيفها في عملياته مراراً ضد القوات والمصالح الأمريكية في العراق، فضلاً عن تصدير هذه الطائرات وكذلك تكنولوجيا تصنيعها للجماعات والميلشيات الموالية للملالي اقليمياً وتمثل أذرعاً عسكرية لتنفيذ مخططاتهم في دول عدة بالمنطقة، وهي جملة مخاطر تفسر اقتراح اسرائيل فرض منطقة حظر جوي للطائرات المسيرّة الايرانية، وذلك خلال محادثات مع واشنطن جرت مؤخراً، بحسب ماذكرت تقارير اعلامية أمريكية، بالاضافة إلى أن البيت الأبيض كان قد أكد الاتفاق مع اسرائيل مغ تشكيل مجوعة عمل مشتركة بين الوكالات الأمنية المختلفة في البلدين تدرس بشكل خاص التهديد المتزايد للطائرات الايرانية المسيرّة وكذلك الصواريخ دقيقة التوجيه التي ينتجها نظام الملالي، وينقلها بالتبعية إلى وكلائه في الشرق الأوسط.
ملالي إيران يلعبون بالنار، ويتجهون إلى تبني خيارات انتحارية صفرية قد تتسبب في اندلاع حروب مقتوحة وصراعات اقليمية تزيد منطقة الشرق الأوسط توتراً واضطراباً.