هناك شواهد ودلائل عدة تؤكد أن قضية الطالب الفلسطيني محسن المهداوي تمثل نموذجاً حياً لتحول استراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه ما يُسمى بـ "القوة الناعمة" للتنظيمات المتطرفة داخل المؤسسات الأكاديمية. فالقبض على المهداوي، الطالب في جامعة كولومبيا، ووضعه على قوائم الترحيل، يكشف عن مشهد جديد في استراتيجية مكافحة العناصر التي تعمل على اختراق المجتمع الأكاديمي والطلابي الأمريكي، وتكوين اتحادات طلابية تحت مسمى الحريات، بينما تعمل في الواقع على نشر أفكار معادية للسامية وتبرير العمليات الإرهابية.
من المؤكد أنه لا يمكن فهم قضية المهداوي بمعزل عن السياق الأوسع للتحولات الاستراتيجية في السياسة الأمريكية تجاه ظاهرة معاداة السامية في الجامعات. فقد أصدر الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً في يناير 2025 بعنوان "إجراءات إضافية لمكافحة معاداة السامية"، يهدف إلى حشد كافة الموارد الفيدرالية لمواجهة تصاعد موجة معاداة السامية في الحرم الجامعي منذ أحداث 7 أكتوبر 2023. وينص هذا الأمر على اتخاذ إجراءات فورية من قبل وزارة العدل لحماية القانون والنظام، وقمع التخريب والترهيب المؤيد لحماس، والتحقيق في العنصرية المعادية لليهود ومعاقبة مرتكبيها في الجامعات الأمريكية.
بلاشك فإن المعضلة الحقيقية التي تواجه المجتمع الأمريكي تكمن في استغلال بعض العناصر المتطرفة للقيم الديمقراطية والحريات الأكاديمية كغطاء لنشر أفكار متطرفة. فالمهداوي، الذي يشغل منصب الرئيس المشارك لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في جامعة كولومبيا، استطاع الدراسة لفترة طويلة في جامعات النخبة الأمريكية، رغم أنه لا يملك عملاً يدر دخلاً، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول مصادر تمويله ودعمه. وأرى أن هذا النمط من الاختراق يمثل تحدياً استراتيجياً يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الإجراءات التقليدية.
وما يزيد من خطورة هذه الظاهرة هو محاولة هؤلاء الطلاب التقليل من فظاعة الهجمات الإرهابية وتبريرها. فخلال مقابلة تلفزيونية في برنامج "60 دقيقة" في ديسمبر 2023، حاول المهداوي التقليل من خطورة هجمات حماس من خلال تشبيهها بـ "لكمة في الوجه"، وعبر عن تعاطفه مع الجناة، في محاولة لتبرير الإرهاب باعتباره استجابة لمظالم متصورة. هذا النمط من الخطاب يمثل تحدياً حقيقياً للقيم الأمريكية التي تقوم على رفض العنف والإرهاب بكافة أشكاله، ويكشف عن الازدواجية في خطاب هؤلاء الناشطين الذين يتحدثون عن الحريات بينما يبررون انتهاكها.
بلاشك فإن الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب تجاه المهداوي وأمثاله تعكس تحولاً استراتيجياً في التعامل مع ظاهرة التطرف في الجامعات الأمريكية. فبدلاً من الاكتفاء بالإجراءات التأديبية الداخلية، أصبحت هناك استراتيجية متكاملة تشمل استخدام أدوات الهجرة والترحيل كوسيلة لمواجهة العناصر الأجنبية التي تنشر الفكر المتطرف. وهذا يتماشى مع ما ورد في الأمر التنفيذي الذي يطالب وزارة الخارجية ووزارة التعليم ووزارة الأمن الداخلي بتقديم توصيات لتعريف مؤسسات التعليم العالي بأسباب عدم القبول بموجب قانون الهجرة والجنسية، حتى تتمكن هذه المؤسسات من مراقبة أنشطة الطلاب والموظفين الأجانب والإبلاغ عنها.
ولعل أبرز ما يميز هذا التحول الاستراتيجي هو الربط المباشر بين مكافحة معاداة السامية وحماية الأمن القومي الأمريكي. فقد أكد وزير الخارجية ماركو روبيو أن الأشخاص الذين شاركوا في احتجاجات عام 2024 المؤيدة للفلسطينيين قد يواجهون إلغاء تأشيراتهم وبطاقات إقامتهم الدائمة. وهذا يعكس فهماً عميقاً لخطورة استغلال الثغرات القانونية والقيم الديمقراطية لاختراق المجتمع الأمريكي. وأعتقد أن هذا النهج يمثل تطوراً ضرورياً في مواجهة تحديات الأمن القومي المعاصرة التي تتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وتنوعاً.
في الواقع فإن قضية المهداوي تكشف عن تحدٍ أعمق يواجه المجتمع الأمريكي، وهو كيفية الموازنة بين الحفاظ على القيم الديمقراطية والحريات الأكاديمية من جهة، ومنع استغلال هذه القيم لنشر التطرف والكراهية من جهة أخرى. وهذا يتطلب استراتيجية متكاملة تجمع بين الإجراءات القانونية والإصلاحات التعليمية والتوعية المجتمعية. ولعل أهم ما يميز هذه الاستراتيجية هو قدرتها على التكيف مع التحديات المتغيرة والمتجددة، وهو ما يتطلب مرونة في التفكير وسرعة في الاستجابة.
وفي ظل هذه التحديات، يبرز دور القيادة السياسية في توجيه دفة المجتمع نحو التوازن المطلوب، فالرئيس ترامب، من خلال أوامره التنفيذية ورسائله إلى الجامعات، يحاول رسم خارطة طريق واضحة للتعامل مع ظاهرة معاداة السامية في الجامعات. وهذا يتطلب تعاوناً من كافة مؤسسات المجتمع، بما فيها الجامعات والمنظمات الطلابية والمجتمع المدني. وأعتقد أن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين الحزم في مواجهة التطرف والمرونة في التعامل مع التنوع الفكري والثقافي.
بلاشك فإن استغلال الثغرات في المجتمع الأمريكي لاختراقه ونشر الأفكار المتطرفة ليس أمراً جديداً، بل هو نمط متكرر وثابت نظراً للقيم المختلفة في أمريكا. ولكن الجديد هو الوعي المتزايد بهذه الظاهرة والإرادة السياسية لمواجهتها. وهذا ما تعكسه قضية المهداوي والإجراءات المتخذة تجاهه. ومن خلال تحليلي للمشهد السياسي الأمريكي، أرى أن هناك تحولاً استراتيجياً نحو مزيد من الحزم في التعامل مع التهديدات الناعمة للأمن القومي، وهو تحول ضروري في ظل التحديات المعاصرة.
من وجهة نظر الكثير فإنه يمكن القول إن قضية المهداوي تمثل نقطة تحول في استراتيجية مكافحة التطرف في الجامعات الأمريكية. فهي تعكس فهماً أعمق لطبيعة التهديد وآليات مواجهته. وهذا يتطلب من المجتمع الأمريكي، بكافة مؤسساته، أن يكون أكثر وعياً بالتحديات التي تواجهه وأكثر حزماً في التعامل معها، فالحفاظ على القيم الديمقراطية يتطلب حمايتها من الاستغلال والتشويه، وهذا هو جوهر المعركة التي تخوضها أمريكا اليوم في جامعاتها ومؤسساتها التعليمية. وأختم بالقول إن التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على مواجهة التطرف دون التضحية بالقيم الديمقراطية التي تميز المجتمع الأمريكي، وهو تحدٍ يتطلب حكمة في القيادة وشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة.