بدأ التواصل الأوروبي على مستوى رفيع مع الإدارة الجديدة في سوريا بزيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك لدمشق، اللذين قاما منذ فترة بتلك الزيارة بتفويض من الاتحاد الأوربي، حيث التقيا أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة، الذي استقبلهما في قصر الشعب بالعاصمة السورية، حيث وجها رسالة باسم الاتحاد الأوروبي مؤكدين فيها أن "بداية سياسية جديدة بين أوروبا وسوريا ممكنة"
"اليد الممدودة" التي كانت عنواناً لتصريحات وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك تكشف عن رغبة أوروبية في بناء دبلوماسية أوروبية فعالة في التعاطي مع الملف السوري، من خلال خارطة طريق ورؤية أوروبية تبدو إلى حد ما واضحة هذه المرة، فأوروبا التي فوضت الدبلوماسيتين الألمانية والفرنسية في التعامل مع هذا الملف بحسب مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبية كايا كالاس التي قالت "اليوم بارو وبيربوك في دمشق ممثلين عن الاتحاد الأوروبي وبالنيابة عنا" تسابق الزمن في التعامل مع بعض الملفات قبل تسلم الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مهام منصبه رسمياً في العشرين من يناير الجاري. أولى محددات الرؤية الأوروبية هي التعامل مع الإدارة السورية الجديدة بناء على الأفعال من دون أن تتخلى عن الحذر في موقفها تجاه "هيئة تحرير الشام"" وقد قالت الوزير الألمانية "نريد دعمهم في هذا المجال: في انتقال سلمي وشامل للسلطة، وفي مصالحة مجتمعية وإعادة الإعمار" مؤكدة "سنستمر في الحكم على هيئة تحرير الشام بناء على أفعالها على الرغم من شكوكنا" وهي يلفت انتباهي أنها لم تتحدث عن إدارة سورية جديدة بل عن هيئة تحرير الشام، وأن هناك شكوك لا تزال عالقة في سلوك هذه الهيئة بانتظار ما يستجد وما يأتي وماهو قادم من أفعالها في المشهد السوري.
بطبيعة الحال، أوروبا تريد هذه المرة أن تنغمس بقوة في الملف السوري، سواء بحكم أهمية سوريا ووضعيتها الجيوسياسية بالنسبة لأوربا، أو لأن الأخيرة تترقب سنوات صعبة من علاقاتها وتحالفاتها الدولية حلال فترة حكم ترامب، ولهذا تريد استباق الأحداث وامتلاك زمام المبادرة في واحد من الملفات ذات الأولوية بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية، وهذا مايفسر ما وصفته مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية بالرسالة إلى القيادة الجديدة في سوريا، حيث شددت على احترام المبادىء المتفق عليها مع الجهات الاقليمية وضمان حماية جميع المدنيين والأقليات معتبرة ذلك أمراً في غاية الأهمية؛ لذا فإن بناء نظام حكم تعددي يضمن مكاناً للمرأة وجميع السوريين بغض النظر عن العرقيات والأديان هو التحدي الأصعب لكل ما يحدث في سوريا.
الحذر الأوروبي بدا واضحاً في جوانب أخرى من تصريحات الوزير الألمانية التي قالت "انتهى الفصل المؤلم من نظام الأسد، وبدأ فصل جديدة لكنه لم يكتب بعد، وفي هذه اللحظة لدى السوريين الفرصة لأخذ مصير دولتهم بأيديهم مرة أخرى"، بينما أعرب الوزير الفرنسي عن أمله في أن تكون سوريا "ذات سيادة ومستقرة وهادئة"، مضيفاً أنه "أمل حقيقي لكنه هش". بلاشك أن التعبير عن الشكوك والهشاشة ليست نوعاً من المبالغة في الظروف السورية الراهنة بالغة التعقيد، ومن يرى المشهد بتفاصيله الدقيقة قد لا يكون موضوعياً في حال اتجه إلى بناء أحكام ايجابية قاطعة حول مسارات المستقبل السوري، فلا تزال الكثير من الأمور غير واضحة، ولا يزال ترسيم خارطة طريق تفصيلية دقيقة للمستقبل مجهولاً ناهيك عن تنفيذها وما يحيط بذلك كله من صعوبات وعراقيل.
لا نميل شخصيا للتشاؤم أو التفاؤل بل قناعتي أن وضع الأمور في نصابها وفهم المعطيات واستيعاب الأمور بشكل واقعي هو أكثر ما يمكن أن يساعد سوريا والسوريين في وضعهم الحالي، فالعملية الانتقالية تحتاج إلى طاقات وجهود تخطيطية جبارة ناهيك عن حشد الدعم الاقليمي والدولي للمساعدة في عملية إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات إلى سوريا، وهذه كلها بحاجة إلى اثبات قدرة السوريين على التعايش والحفاظ على وحدة أراضيهم وسيادتهم وفك الارتباط بتحالفات إقليمية ظلت لسنوات وعقود سبباً في تعطيل دوران عجلة سوريا ومسيرتها، وهي أمور لن تمضي بالسهولة التي يتخيلها البعض، سواء لأن سوريا إحدى نقاط التجاذب والتنافس الجيواستراتيجي الإقليمي والدولي لاعتبارات اقتصادية وسياسية عديدة أو لأن هناك من راهن عليها لفترات طويلة كحائط صد ضمن حسابات الأمن القومي وغير ذلك.
برأيي، تبقى الفصائل المسلحة أحد أهم التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة في سوريا، باعتبار أن ذلك هو المدخل لاثبات حسن النوايا في الانتقال من فكر الميلشيا أو العقلية الفصائلية إلى فكر الدولة بشموليته واستيعابه للجميع، والمسألة هنا لا تتعلق بقرار بهيئة تحرير الشام التي تعهد الشرع بحلها فقط، بل في كيفية تنفيذ هذا التعهد وتعميمه على باقي الفصائل، وهنا لا يبدو الأمر بسيطاً بالمرة، فبناء جيش وطني سوري على أسس جديدة تعلو فوق العداءات القديمة بين المتحاربين من الجيش القديم والفصائل، وبين الإسلاميين وبقية أبناء البلاد كلها لن تتحقق بين عشية وضحاها، فالتنظير في هذه الأمور أمر يسير ولكن تحققها يبقى أمراً صعباً وإن لم يكن مستحيلاً، لاسيما أنه لا توجد تجارب معاصرة لبناء جيوش وطنية على نفس الشاكلة، بحيث تتوافر تجارب ودروس يمكن الاستفادة منها، خصوصاً أن أيديولوجيا الفصائل الإسلاموية تحديداً تمتلك فكراً اقصائياً يصعب استئصاله أو حتى تغييره بسهولة، ناهيك عن صعوبات التأكد من فك ارتباك العناصر جميها بخلفياتها التنظيمية مع الجماعات الارهابية والمتطرفة، بكل ما يعنيه ذلك في إطار الحديث عن جيش وطني وأسس جديدة للأمن الوطني والقومي بكل متطلباته وثوابته التي لا تقبل التهاون، وقد تابعنا التقارير الإعلامية التي تحدثت عن تعيين قادة عسكريين أجانب لتولي مسؤوليات أمنية في البلاد، وهو أمر قد يكون مرحلياً ولكن من الوارد كذلك أن ينسف أي احتمالية لترويض الفصائل والميليشيات المسلحة ودمجها في مرحلة إعادة بناء الدولة والجيش.