تستحق الهند أن تحصل على لقب الدبلوماسية الأذكى عالمياً في التعامل مع الأحداث والتطورات الدولية وتوظيفها لمصلحتها، وهو مايفسر الأسباب التي دفعت الرئيس الأمريكي جو بايدن للقول بأن العلاقات بين بلاده والهند هي "الأكثر أهمية وتأثيراً" في العالم، وذلك خلال زيارة الدولة، التي قام بها مؤخراً إلى واشنطن، ناريندا مودي رئيس الوزراء الهندي.
الاحتفاء الاستثنائي الأمريكي بزيارة رئيس الوزراء الهندي قد تكون له دوافعه الإستراتيجية المعروفة للمتخصصين والمراقبين، ولكن الأمر لا يجب أن يصرف الأنظار عن نجاح الدبلوماسية الهندية في إحداث تحولات نوعية كبيرة على المسرح الدولي وفي علاقاتها مع القوى الكبرى خلال وقت وجيز، ومن دون صخب أو ضجيج إعلامي أو سياسي.
الولايات المتحدة تحرص أشد الحرص على تعميق علاقاتها مع الهند، ليس لكي تتخذها حليفاً كما يعتقد البعض، ولكن لأن صعود الهند بوتيرة سريعة يجعل منها قوة مكافئة للنفوذ الصيني المتنامي، ويضع أمام بكين تحدياً استراتيجياً معقداً بوجود منافس إقليمي صعب في منطقة النفوذ التقليدية للدولتين (المحيط الهادىء ــ الهندي).
صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية اعتبرت أن "الدافع الصيني" يقف وراء احتفاء الولايات المتحدة بزيارة مودي الأخيرة إلى واشنطن، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن الأمر لا يتوقف ـ برأيي ـ على الجانب الأمريكي، فالهند أيضاً لديها ملف ضخم من الحساسيات والخلافات والتوترات الكامنة مع الجار الصيني، كما أن هناك مصالح إستراتيجية ضخمة متبادلة، تعكسها أرقام التبادل التجاري الأمريكي ـ الهندي التي وصلت إلى 130 مليار دولار، وهناك امكانات هائلة ومساحات لم تستغل بعد على صعيد هذا التعاون، وبالتالي فالهند لديها دوافع موازية للتعاون مع الولايات المتحدة لاسيما على الصعيد التجاري والاقتصادي.
نجحت الهند في أن تحصد الكثير من الخلافات التي طغت مؤخراً على العلاقات الصينية ـ الأمريكية، وقدمت نفسها كمركز بديل للتصنيع وخدمات التعهيد للشركات عابرة القارات، وهي تمتلك من المؤهلات والمقومات ما يعزز موقفها، لاسيما بعد تسوية الكثير من الخلافات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية، وهو مايفسر قول رئيس الوزراء مودي: "ولا حتى السماء تمثل حدودا للعلاقات بين الهند والولايات المتحدة".
السياسة الخارجية الهندية تنطلق منذ حقبة رئيس وزراء الهند الأول جواهر لال نهرو من مبادىء عدم الانحياز، التي لا تزال تلقي بظلالها على مواقف وتوجهات قادة البلاد من الأحزاب التي تتوالى على الحكم، ويعزز ذلك أن الصعود الهندي القوي يفرض على البلاد عدم القبول بموقع "الشريك/ الحليف التابع"، وهو مايفسر الحذر الهندي الواضح في التعاطي مع الإدارات الأمريكية المختلفة التي سعى بعضها أن يتخذ من نيودلهي "رأس حربة" في صراعاته الدولية بالمنطقة الآسيوية.
رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا مودي ينطلق من معطيات وأرضية مغايرة لأسلافه، فهند اليوم ليست هند الأمس، سواء من حيث عناصر القوة الشاملة، أو من حيث الموقع والمكانة في توازنات القوى الدولية، وكلاهما عنصران مترابطان، لذلك فهو يتحرك باتجاه مصالح بلاده مع الولايات المتحدة بثقة وجرأة أكبر وحذر أقل، لأن الطرف الآخرـ الأمريكي ـ يدرك تماماً الخطوط الخضر والحمر في السياسات الهندية، ويتحسب جيداً لتمسك الهند بالتوازن الصعب بين موروثها السياسي وطموحاتها الدولية.
المؤكد أن رئيس الوزراء مودي يتعامل بذكاء ملموس مع الصدام الحاصل دولياً بين روسيا والغرب، ويعبر عن موقف بلاده ومبادئها من دون الانزلاق إلى حد إغضاب "الأصدقاء" الروس (تستورد الهند نحو 45% من احتياجاتها العسكرية من روسيا مقابل 12% من الولايات المتحدة)، وقوله أن "هذا ليس زمن الحرب" في الإشارة إلى ما يحدث في أوكرانيا، يعكس هذه القدرة على المشي بين الأشواك، وتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة من دون أن يتخلى عن ثوابت السياسة الخارجية لبلاده.
الهند ترى ـ كغيرها من القوى الصاعدة ـ أن هناك حراكاً دولياً متسارعاً وتغيرات جيوسياسية نشطة تشكل ارهاصات لتحولات جذرية كبرى في النظام العالمي القائم، وباتت على قناعة بأن هذه هي "لحظة الهند"، كما هي "لحظة الصين" من وجهة نظر بكين، وبالتالي باتت تتحرك وفق مصالحها من دون التوقف كثيراً أمام احتمالات إغضاب الآخرين، أو حتى مبادىء "عدم الانحياز"، لذا فقد صعدت من دون تردد على المسرح الاقليمي من خلال مجموعة التحالف الأمني الرباعي (كواد) الذي يجمعها مع الولايات المتحدة واليابان واستراليا، حيث تتشارك الهند الرؤى مع الديمقراطيات الثلاث الأخرى بشكل يزعج الصين التي ترى في هذا الإطار "عصابة شريرة" مصابون بمتلازمات مرضية مختلفة، بحسب تعبير صحيفة "غلوبال تايمز" الحزبية الصينية، التي رأت في "كواد" تحالفاً أخطر على الصين من "اوكوس" التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واستراليا، بالنظر إلى أن الأول يضم دولتين اصطدمتا من قبل بالصين وهما الهند واليابان.
اختيار رئيس الوزراء الهندي مودي الذي قام بزيارة دولة هي الأولى له إلى الولايات المتحدة من بين 8 زيارات سابقة، كي ينضم إلى قائمة من القادة العالميين التاريخيين مثل ونستون تشرشل ونيلسون مانديلا في القاء كلمة أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس الأمريكي، وإجراء مراسم استقبال خاصة لم يحصل عليها خلال إدارة بايدن سوى أقرب الحلفاء مثل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، كل هذا لا يعكس فقط حفاوة استقبال، ولكنه يجسد رغبة أمريكية في نقل العلاقات بين البلدين إلى مربع جديد، والأمر هنا ليس ببعيد عن حسابات واشنطن تجاه الصين، ولا حسابات نيودلهي وتصوراتها الاستراتيجية عن عالم مابعد أوكرانيا.