من بين كثير من الخطوات والتطورات التي تستهدف التخلص من هيمنة الدولار، رمز القوة والهيمنة الأمريكية على العالم، يبرز إتفاق البرازيل والصين على إستخدام عملتيهما المحليتين في التبادلات التجارية بين البلدين بدلاً من الدولار. هذا الإتفاق المهم للغاية، يؤكد مضي الصين في ضم المزيد من الدول إلى مربع الدول التي تتعامل باليوان والعملات المحلية في التجارة الخارجية، كما تنبع أهميته أيضاً من مكانة الطرفين الموقعين عليه، فالصين هي ثاني أكثر إقتصاد في العالم، بينما تعتبر البرازيل أكبر إقتصاد في أمريكا اللاتينية، وتبلغ قيمة التبادلات التجارية للبلدين في عام 2022 نحو 150 مليار دولار.
المسألة هنا ليست إقتصادية فقط بل تشمل أبعاد إستراتيجية أخرى، فتراجع النفوذ الأمريكي اقتصادياً وسياسياً بات ظاهرة واضحة لا يختلف عليها اثنان من المحللين، وهذا بحد ذاته مؤشراً مهماً لبداية تشكل نظام عالمي جديد.
السؤال الأكثر الحاحاً هنا يتعلق بالوقت الذي يمكن أن يستغرقه بناء نظام عالمي جديد، وملامح هذا النظام والقوى المسيطرة عليه، وهنا يمكن الإشارة إلى أن أي نظام عالمي ساد العالم في فترات سابقة، قد تشكل عقب أزمات كبرى، حيث أسهمت نتائج هذه الأزمات في تشكيل ملامح هذا النظام، وتأطير ملامحه وتحديد القوى الفاعلة فيها، مثلما حدث في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ولكن الحاصل في المرحلة الراهنة يعد تجربة نوعية تختلف عن سابقاتها في مراحل تاريخية ماضية، حيث يتشكل النظام العالمي على وقع مواجهات غير مباشرة وحروب باردة وأزمات معقدة في مجالات أخرى ليس من بينها المجال العسكري، مثل أزمة تفشي وباء "كورونا" والحرب بالوكالة التي يخوضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا في أوكرانيا، وكذلك صعود النفوذ الصيني المتسارع، اقتصادياً، وتكنولوجياً، وسياسياً.
في ضوء ماسبق يصعب التكهن بالفترة الزمنية التي يمكن أن يستغرقها بناء نظام مابعد أوكرانيا، حيث تتوقف هذه الفترة على نتائج الصراعات والمنافسات الدائرة على جبهات شتى، فهناك صراع لتقليص هيمنة الدولار الأمريكي، وهناك حرب تجارية شرسة بين الصين والولايات المتحدة للسيطرة على قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، ولاسيما في مجال الرقائق وأشباه الموصلات، وهناك المواجهة الروسية ـ الأطلسية غير المباشرة على أرض أوكرانيا، وهناك التنافس الإستراتيجي المحتدم بين القوى الدولية الكبرى في إفريقيا وغيرها من مناطق الصراع والنفوذ.
الفترة الزمنية اللازمة لإقصاء الولايات المتحدة بشكل كامل عن مقعد القيادة لا تزال بعيدة، فعلى المستوى الإقتصادي، نلحظ أن نحو 60% من إقتصادات العالم لا تزال تستخدم الدولار للإحتفاظ باحتياطات مالية، بينما لا يزال أغلب التجارة العالمية تجري بالدولار، وعلينا أن نتذكر جيداً أن الصين هي الحائز الأكبر عالمياً من إحتياطات الدولار الأمريكي، وهذا له دلالة مهمة تتعلق بمدى إلحاح الصين على إقصاء الدولار عن موقعه المهيمن عالمياً كعملة احتياطات مالية، حيث يمكن أن تكون هذه الخطوة في غير مصلحة بكين إن جاءت في توقيت لا يتماشى مع حسابات الصين في هذا الشأن.
أما ملامح القوى المسيطرة على النظام العالمي المرتقب وشكل هذا النظام، سواء من حيث كونه قائم على قطبية ثنائية، أم تعددي، أم قائم على قطب واحد مهيمن مثلما عليه الحال منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق وحتى الآن، فهذه جميعها تبقى سيناريو مفتوح يصعب القطع به في ظل التفاعلات الدائرة دولياً وصعوبة التكهن بمساراتها ونتائجها خلال السنوات المقبلة، ولكن المؤكد أن قوى دولية كبرى مثل الصين بالإضافة إلى القطب المهيمن حالياً وهو الولايات المتحدة تحتفظان بمقعدين على خارطة هذا النظام المرتقب، ولو لفترة انتقالية، بحيث يمكن القول أن الخارطة ستتشكل إكتفاء بهما كقطبين متنافسين، أو بانضمام أقطاب دولية أخرى لبناء نظام متعدد الأقطاب.
بلاشك أن مراكمة خطوات الحد من نفوذ الولايات المتحدة برموز قوتها المتنوعة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، قد يٌعجّل بوضع ركائز نظام عالمي جديد، ولكن يبقى توقيت حدوث ذلك رهن وتيرة وتأثير هذه التراكمات، فضلاً عن مستوى وحجم ردود الفعل الأمريكية المرتبطة بشكل وثيق بالحفاظ على القوة والنفوذ والهيمنة على النظام العالمي.