"الخطة السرية" هو التعبير الذي وصفت به صحيفة "ذا تلجراف" البريطانية، الجهود التي يبذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتعاون مع الصين لإنهاء حرب أوكرانيا، حيث أكدت أن ماكرون "يطور" خطة لجذب روسيا وأوكرانيا إلى طاولة المفاوضات بدعم من بكين، بحلول هذا الصيف، وأن هناك تنسيق فرنسي ـ صيني لإعداد إطار عام يمكن إستخدامه كأساس للمفاوضات المحتملة.
أنباء البحث عن مخارج تفاوضية مسألة ليست مفاجئة ولا غريبة بل مسألة بديهية لأن أحد جوانب الصراع والتنافس يتمحور حول الشق السياسي والإستراتيجي، فالكل يعلم أن الحرب ليست سوى جزء من العملية السياسية، وهي أحد مراحلها، كما يقال في أدبيات السياسة التقليدية، فالنهاية الحتمية لأي صراع عسكري يفترض أن تكون على طاولة المفاوضات، وإلا سيبقى هذا الصراع مزمناً أو مفتوحاً من دون نهايات واضحة، ويتحول إلى أزمة كامنة، وهذا ما يصعب حدوثه في أزمات معقدة وحساسة كالأزمة الأوكرانية.
الجهود السياسية الفرنسية ـ الصينية هي جزء من صراع دبلوماسي يدور على متن الصراع العسكري الدائر في أوكرانيا، فأحد الروافع الإستراتيجية المهمة لتشكل النظام العالمي القادم تنطلق من ساحات العمل السياسي والدبلوماسي، لذلك فإن قوة دولية كبرى كالصين، وقوة أوروبية مؤثرة كفرنسا تسعيان ـ من بوابة السياسة والدبلوماسية ـ إلى الإحتفاظ بدور حيوي في إطار الصراع العالمي الدائر.
تدرك الصين وفرنسا أن جهودهما الدبلوماسية قد لا تكون كافية لجلب طرفي الأوكراني لطاولة المفاوضات، ولكنهما يثقان في أن تعاونهما مهم للغاية في نجاح أي دور لهما في هذه الأزمة، حيث يصعب على الغرب قبول وساطة صينية خالصة، بسبب التوتر الحاصل في علاقات واشنطن مع بكين، واتهامات الأولى للثانية بدعم روسيا في الحرب، فضلاً عن رغبة الولايات المتحدة في عدم منح الصين، الخصم الإستراتيجي والمنافس الأبرز في صراع المكانة والنفوذ، مكسباً سياسياً من خلال دور وساطة محتمل، بما يصب بالأخير في سلة تعزيز مكانة الصين العالمية، وبالتالي فإن واشنطن قد لا تقبل دور وساطة صيني سوى في حالات محددة منها تطور ظروف الحرب الأوكرانية وتداعي مواقف أوكرانيا العسكري وبروز مخاطر على أمن أوروبا بأكملها بما يجعل إنهاء الحرب مسألة حتمية، ومنها أيضاً أن يكون الدور الصيني ضمن ترويكا دولية أو وساطة ثنائية يشارك فيها طرف غربي قريب من الولايات المتحدة مثل فرنسا.
على الجانب الآخر، فإن فرنسا تدرك أن من الصعب نجاح أي دور وساطة منفرد لها في أزمة أوكرانيا، فقد سبق أن حاول الرئيس ماكرون من خلال إتصالات مباشرة وزيارة قام بها إلى موسكو للبحث عن مخرج من الأزمة، ولكنه فشل تماماً، وانتقل إلى مربع الدعم العسكري والسياسي الكامل لأوكرانيا. فرنسا التي يبحث رئيسها عن موقع لبلاده على خارطة عالم مابعد أوكرانيا، ولو من خلال الترويح لفكرة القطب الأوروبي الثالث، الذي يمكنه لعب دور حيوي بجانب القوى الدولية الكبرى المتنافسة على قيادة النظام العالمي. ويدرك ماكرون أن طموحاته على هذا الصعيد لن تتحقق سوى من خلال التنسيق والتعاون مع أطراف دولية أخرى مثل الصين.
الواضح أن تطور أي جهد دبلوماسي صيني ـ فرنسي، أو من جانب أطراف دولية أخرى قد يرتهن إلى نتائج هجوم الربيع الأوكراني ومابعده؛ فباريس تحديداً تنظر بعين إلى جهدها التنسيقي مع الصين، وتنظر بعين أخرى طامحة إلى انتصار عسكري أوكراني يعزز موقف كييف التفاوضي، ويسهم في الضغط على روسيا واقناعها بتسريع الجلوس إلى مائدة التفاوض، وقد يبدو الموقف الصيني معاكساً للموقف الفرنسي في هذا الشأن، أي أن بكين تطمح إلى حسم عسكري روسي يجبر أوكرانيا على التفاوض، حيث تدرك الصين ضرورة منح فرصة كاملة لروسيا كي تنجز أهدافها العسكرية في أوكرانيا، ولكن حسابات بكين الإستراتيجية تنطلق من أن خسارة روسيا للحرب ليست في مصلحة الصين، كما أن تحقيقها نصر عسكري كامل وكاسح قد لا يكون كذلك في مصلحة الصين، وبالتالي فإن خروج طرفي الحرب بنصف إنتصار ونصف خسارة، أو إجبارهما معاً على الجلوس للتفاوض لانهاء نزيف الخسائر هو "السيناريو" الأمثل للصين، ولكنه يبدو سيناريو صعب التحقق على الأقل في ظل شروط موسكو وكييف في الوقت الراهن، وهي شروط قابلة للتغير بتغير مجريات الحرب.
الخطة السرية الصينية ـ الفرنسية لم تتبلور بعد، وقد لا تظهر إلى العلن ما لم تحدث تطورات فارقة في الأزمة الأوكرانية، لاسيما أن الصين لا تزال حذرة في مسألة الضغط على روسيا لانهاء الحرب، كما فشل ماكرون في إقناع الرئيس الصيني شي جين بينغ بمهاتفة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ولا يجب أن ننسى أن بكين تربط كل تحركاتها في الأزمة الأوكرانية بالتطورات الحاصلة في الملف التايواني، حيث لا تزال بكين تراهن على قدرتها على إبعاد أوروبا عما تصفه بالتبعية للأجندة الأمريكية في تايوان.
ربما يكون من مصلحة روسيا ـ نظرياً ـ منح مساحة أو فرصة لنجاح التحرك الدبلوماسي الفرنسي، لنفس السبب الصيني الخاص بإبعاد أوروبا عن الدوران في فلك النفوذ الأمريكي، ولكن شريطة ألا يكون ذلك على حساب المصلحة الإستراتيجية لموسكو وأهدافها في أوكرانيا، وهذا كله يرتبط بدوره بالتطور الميداني للحرب في أوكرانيا.