وسط حالة محتدمة من التنافس العالمي بين القوى الكبرى، وبعد نحو أسبوع من إنعقاد المنتدى الدولي الثاني للديمقراطية الذي عقد في العاصمة الصينية، بكين، نظمت الولايات المتحدة القمة الثانية من أجل الديمقراطية، والتي شاركت في إستضافتها دول عدة منها كوريا الجنوبية وزامبيا وهولندا وكوستاريكا، وناقشت سبل تعزيز المؤسسات الديمقراطية والتصدي للفساد والدفاع عن حقوق الانسان.
القمة التي استضافتها الصين من قبل ناقشت أيضاً خمسة محاور رئيسية ركزت على الديمقراطية والتنمية والمستدامة، والابتكار، والحوكمة العالمية، والتنوع، والتحديث. و الدلالة الأهم في هاتين القمتين هو بروز الصراع بين الولايات المتحدة والصين على قيادة العالم، وتحول الديمقراطية إلى محور لهذا الصراع، حيث أصبح الأمر يتعلق بنموذج الحكم الديمقراطي وركائزه وسماته؛ حيث يقود الرئيس الأمريكي جو بايدن حملة من أجل ما يسميه بالديمقراطية العالمية، وبرز ذلك بقوة من خلال قمة الديمقراطية الأولى التي استضافتها واشنطن في عام 2021، ثم بشكل أكثر حدة خلال زيارة بايدن إلى بولندا وأوكرانيا، حيث صور نفسه باعتباره قائداً لحملة عالمية ضد "الأشرار"، في إطار ما وصفه بـ"اختبار/ تحدي العصور"، مشيراً بذلك إلى من يتحدى النموذج الديمقراطي الغربي، في تقسيم أمريكي جديد للعالم على غرار نموذج الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، الذي وضع مبدأ "معنا أو ضدنا".
تسعى الولايات المتحدة والغرب بشكل عام إلى تصوير حرب أوكرانيا باعتبارها صراعاً بين الديمقراطية والإستبداد، حيث اكد في وارسو أن "الديمقراطيات في العالم أصبحت أقوى والمستبدين أصبحوا أضعف"، على الرغم من أن الأمر يتعلق بالأساس بصراع النفوذ والهيمنة بين روسيا وحلف "الناتو".
شاركت في قمة الديمقراطية التي نظمتها الولايات المتحدة حوالي 120 دولة، بينما شاركت في القمة التي استضافتها الصين نحو 100 دولة، ما يعكس بوضوح حجم الإنقسام العالمي بين القوتين، حتى أن الرئيس بايدن قد أعلن في القمة الأخيرة تعهد بلاده بإنفاق 690 مليون دولار لتعزيز برامج الديمقراطية في العالم، رافعاً شعار التكنولوجيا من أجل الديمقراطية، وهو تمويل سخي لم تقدم الولايات المتحدة مثله في أزمات إنسانية عانت منها مناطق عدة من العالم.
فكرة التقسيم القائم على الأيديولوجيا أو العقيدة السياسية او غير ذلك هي بحد ذاتها فكرة تنتمي إلى حقبة الحرب الباردة، وتتنافر تماماً مع أفكار أخرى روجت لها الولايات المتحدة نفسها في مرحلة مابعد إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق مثل العولمة والتجارة الحرة وغير ذلك من آليات عابرة قائمة على إلغاء الحواجز والتقسيمات الجامدة.
الحديث عن دعم الديمقراطية ومكافحة الديكتاتورية يمثل شعاراً إنتخابياً وظفه الرئيس بايدن في حملته الإنتخابية الأولى، وليس صدفة أن ينظم القمة الثانية حول الموضوع ذاته مع إقتراب حملته للفوز بولاية رئاسية ثانية، كما يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة تستعين بكل روافد قوتها الناعمة التي ارتكزت عليها في بناء نفوذها العالمي خلال العقود السابقة، في مواجهة ما تعتبره صعوداً سريعاً للأنظمة الإستبدادية عالمياً، وتقصد بذلك الصين وروسيا.
هذا التوجه الأمريكي ربما لايصب في مصلحة واشنطن ليس فقط بالنظر إلى ضعف فكرة الدفاع عن الديمقراطية وتهافتها في ظل المعطيات الدولية الراهنة، ولكن أيضاً لأن الولايات المتحدة نفسها لا تمنح هذه الفكرة أولوية سوى حين تتطابق مع مصالحها الإستراتيجية، وعدا ذلك فإن للمصالح الأمنية والإقتصادية والعسكرية الاولوية المطلقة في السياسة الخارجية الأمريكية، وهناك عشرات الأمثلة الدالة على ذلك، علاوة على أن هذا التقسيم يعمق الشقاق بين الولايات المتحدة والعديد من حلفائها الإستراتيجيين في مختلف أرجاء العالم، لاسيما أن التدخل في شؤون الدول الأخرى بزعم الدفاع عن الديمقراطية وغير ذلك عبر آليات وقنوات مثل دعم المجتمع المدني وغيره، بات يمثل أحد مصادر الجفاء الذي يخيم على علاقات واشنطن مع الكثير الدول، وهنا يمكن الإشارة إلى ديمقراطية كبرى مثل الهند التي لا تشاطر الولايات المتحدة والغرب رأيه بشأن تصنيف ما يحدث في أوكرانيا باعتباره صراعاً بين الديمقراطية والإستبداد.
بايدن يرى أن الصراع بين الديمقراطية والإستبداد هو "التحدي الحاسم" في العصر الراهن، وهي وجهة نظر تعني أن الولايات المتحدة تضع نفسها في مواجهة نحو 70 % من سكان العالم ممن تصفهم الدراسات الغربية يعيشون في ظل أنظمة إستبدادية! فضلاً عن أن الداخل الأمريكي نفسه يعاني شروخاً وإنقسامات عميقة على خلفية الممارسات الديمقراطية التي تسببت في حالة من الفوضى التي بلغت ذروتها في إقتحام "الكابيتول هيل"، عقب الإنتخابات الرئاسية الأخيرة.
الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من مقومات نفوذها وسلطتها الأخلاقية ـ إن صح التعبير ـ عقب تخليها عن الجميع أثناء أزمة تفشي وباء "كورونا"، ولم تبذل الجهد لقيادة العالم في مواجهة هذا الخطر الداهم، قد لا يكون منطقياً أن تعقد القمم واحدة تلو الأخرى لدعم الديمقراطية في وقت ترى فيه الكثير من الدول أن نظاماً "إستبدادياً"، بحسب التوصيف الأمريكي ـ مثل الصين هو من دعم الكثير من الدول النامية في أثناء أزمة "كورونا"، فضلاً عن إنطلاق النموذج الصيني من فكرة مرغوبة عالمياً وهو عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
الصين التي تربط نموذجها الديمقراطي في الحكم بالتنمية، تشكك بقوة في قدرة واشنطن وحقها الأخلاقي في فرض عقائدها السياسية وطريقة حياتها على الآخرين، ويستشهد باحثون روس وصينيين في ذلك بنتائج إستطلاعات الرأي التي تٌجرى في الولايات المتحدة نفسها والتي يطالب فيها أكثر من ثلاثة أرباع الأمريكيين بإصلاح سياسي كبير في بلادهم، حتى أن صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية ذكرت أن قمة الديمقراطية تحتاج إلى كتابة وصفة طبية للولايات المتحدة أكثر من غيرها في ضوء أزمات الديمقراطية الأميركية التي لا تتوقف، مثل إرتفاع معدلات الجرائم وحوادث إطلاق النار ورفض رئيس سابق تداول السلطة سلمياً.
في الواقع وبعيداً عن صراع النماذج والأيديولوجيات السياسية، فإن التجربة أثبتت عدم وجود نموذج مثالي للممارسة السياسية يمكن الأخذ به في جميع الدول، فهناك أنماط مختلفة للديمقراطية، والنموذج الغربي ليس النموذج الوحيد الذي يمكن الأخذ به، وهناك دراسات وبحوث غزيرة في الغرب تناقش فكرة "موت الديمقراطية"، ولاسيما في ظل ماحدث من إنقسامات حادة في الولايات المتحدة، فضلاً عن تداعي فكرة الربط بين الديمقراطية والإزدهار الإقتصادي والتنموي بصعود النموذج الصيني إلى ريادة إقتصادات العالم، وبالتالي فإن من الوارد ان ينتج الصراع الحالي على السلطة والنفوذ في مرحلة مابعد أوكرانيا، نموذجاً جديداً للممارسة السياسية، أو يسهم في تعزيز موقف أحد النموذجين القائمين بالفعل.