من يتابع الجدل الدولي الدائر حول أسعار النفط والغاز يجد أن الدول الغربية المستهلكة، التي تعاني مأزقاً صعباً بسبب تداعيات الصراع في أوكرانيا، تلقي بتبعات الأزمة على الدول المنتجة، وتتهم روسيا باستخدام الغاز كسلاح سياسي، بينما يشير تفكيك المشهد بأكمله إلى حقائق مغايرة يقود فهمها إلى إستكمال كافة جوانب الصورة وفهم أبعاد تغيب عن الإتهامات المقولبة التي تتردد عبر وسائل الإعلام في الغرب.
النقطة الأولى في النقاش تتعلق بالمطالب الغربية بزيادة إنتاج النفط من جانب "أوبك +"، وقد يكون لهذه المطالب قدر معقول من الوجاهة والمنطقية لو جاءت في سياق أزمة حقيقية تعانيها أسواق الطاقة العالمية، ولكن الحاصل أن الأزمة لا تتعلق بنقص المعروض ولكن بالرغبة في محاصرة النفط والغاز الروسي والحد من قدرة موسكو على الإستفادة من عوائدها الطاقوية، وتلك مسألة جيوسياسية بحتة لا علاقة لها البتة بمعادلة العرض والطلب، لاسيما أن الدول المنتجة يمكن أن تتعرض لخسائر كبيرة في حال تراجع الأسعار عما هو مقدر بالموازنات العامة لهذه الدول. النقطة الثانية أن هناك تجاهل غربي للقدرات الإنتاجية القصوى لدول "أوبك+" لاسيما دول مجلس التعاون، حيث تنتج هذه الدول بما يناهز حدود طاقتها الإنتاجية القصوى، وبالتالي من الصعب عليها تعويض نقص المعروض الروسي من النفط، ناهيك عن ان هذا النقص ليس حقيقياً بل هو امر متعلق بوجهات التصدير، بمعنى أن حظر إستيراد النفط الروسي على سبيل المثال من جانب الدول الغربية لا يعني ان هناك نقص في مجمل المعروض النفطي العالمي، بل هناك رغبة غربية في إعادة هندسة تجارة النفط وفقاً لرغبات هذه الدول، التي تدرك جيداً ان المسألة كلها محكومة بعقود طويلة الأجل لتوريد النفط والغاز، ومن الصعب التحكم في هذه العقود بين عشية وضحاها.
الأزمة كلها لها معطيات رقمية واضحة، ويتوقع أن تزداد تعقيداً بنهاية العام الجاري وتحديداً في الخامس من ديسمبر المقبل مع تطبيق الحظر الأوروبي الكامل على وارادات النفط الروسية، التي تقدر بنحو 1.5 مليون برميل يومياً، وهي كميات يصعب تعويضها سواء من الفارق بين العرض والطلب العالميين، أو من زيادة إنتاج بعض المصدرين، فضلاً عن صعوبة تعويضه من دخول حصص أخرى كالنفط الإيراني في حال التوصل إلى تفاهم لإحياء الإتفاق النووي، لأسباب تقنية وفنية تتعلق بضعف القدرة على الإنتاج والتصدير والوصول للطاقة القصوى في وقت وجيز بسبب تأثير العقوبات الدولية التي تعرض لها القطاع النفطي الايراني طيلة سنوات طويلة مضت.
مما لاشك فيه أن هذه الأزمة تضر بالجميع، منتجين ومستهلكين، على حد سواء، فضلاً عن تداعياتها الكارثية على الإقتصاد العالمي، وخطط التغير المناخي، لاسيما أن هناك إحتمالات للتراجع عن الكثير من هذه الخطط لمواجهة الظروف الطارئة الحالية، ولكن اللافت أن الولايات المتحدة على سبيل المثال، تتعامل مع الأزمة باعتبارها من صنيعة الدول الرئيسية المنتجة للنفط، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وليس للسياسات الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، علاقة بها، حيث يتم تسليط الضوء على أي قرار نفطي باعتباره تحدياً للسياسات الأمريكية، أو رسالة سعودية لواشنطن، مثلما لاحظنا في تعليقات المحللين الأمريكيين على قرار "أوبك +" الأخير بشأن خفض الإنتاج النفطي، وقد يكون في طرحهم وجهات نظرهم وجاهة ظاهرية ولكنها تسقط تماماً في مواجهة أي تحليل متكامل للمشهد، لأن المسألة بالأخير ليست مباراة ثنائية بين الرياض وواشنطن بل قرار يتعلق بمصالح وسياسات وإستراتيجيات دول عدة منتجة للنفط، فضلاً عن أن السعودية نفسها لديها ميزانية ومصالح إستراتيجية يجب أن تحافظ عليها شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة نفسها، التي تعمل وفق منطق أحادي غريب يريد من الآخرين خدمة مصالحه حتى لو على حساب مصالحهم!
ببساطة، يريد الغرب أن يحقق معادلة مستحيلة، وهي حرمان روسيا من عائداتها النفطية التي تمول الحرب في أوكرانيا، وذلك من خلال زيادة المعروض النفطي من خلال منتجين آخرين أي حرمان الخزانة الروسية من الإستفادة من الأسعار المرتفعة، وهذا هو النصف الأول من المعادلة، والذي يتعارض تماماَ مع شقها الثاني القائم على محاولة منع النفط والغاز الروسي من النفاذ للأسواق العالمية، والسعي لعزل روسيا طاقوياً، وهذا سيناريو خيالي يضع الغرب في خانة من يعاقب نفسه لأنه لا أحد يستطيع تعويض صادرات روسيا الطاقوية من دون التأثير في منحنى الأسعار!
الخلاصة هنا تكمن في أن الولايات المتحدة تفعل عكس ماتقول أو في أفضل الأحوال لا تطبق ما تعلنه، بمعنى أن واشنطن لا تزال تنظر لدول مجلس التعاون المنتجة للنفط باعتبارها أداة تابعة لها في الصراع والتنافس الدولي، ولا تبدي أي قناعة بأن لهذه الدول مصالح إستراتيجية يجب أن تحافظ عليها من خلال الحفاظ على توازن صعب وحساس في علاقاتها مع جميع القوى الدولية الكبرى، لاسيما أن الولايات المتحدة نفسها لم تثبت لهذه الدول في أي موقف خلال الآونة الأخيرة أنها الشريك الموثوق الذي يمكن الإعتماد عليه، أو تثبت رغبتها في الحفاظ على التحالفات التاريخية القائمة بين الجانبين، والتي تريد الإدارات الأمريكية المتعاقبة في العقدين الأخيرين تحويلها إلى علاقة شراكة من طرف واحد، لا حقوق فيها للطرف الثاني ولا مسؤوليات تقع على عاتق الطرف الأول! المخرج من هذه التعقيدات التي وضع الغرب نفسه فيها ليس في وضع منتجي النفط في زاوية الإتهام ولا في محاولة الضغط عليهم، ولكن في إعادة النظر في مجمل السياسات الأمريكية ووضع مصالح الآخرين في الإعتبار من أجل بناء علاقات متوازنة يمكن الإعتماد عليها في المستقبل المنظور.