على الدول العربية إعادة قراءة خارطة الواقع وفهم حسابات الربح والخسائر للأطراف كافة في الأزمة السورية من أجل التعامل بواقعية تضمن للشعب السوري مصالحه وأمنه واستقراره.
منذ أيام مضت، كتب وزير الخارجية الأشهر أميركيا وعالميا والمستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر رسالة مفتوحة عبر صحيفة “وول ستريت جورنال” وجهها إلى الرئيس باراك أوباما تناول فيها الأوضاع الدولية، وتطرق فيها إلى قضايا عدة تستحق البحث والتحليل، كون الرجل واحدا من أبرز وأهم منظري السياسة الخارجية الأميركية في العصر الحديث.
حذّر كيسنجر في مقاله من داعش، لكنه اعتبر أن طموحات إيران ومخططاتها الاستعمارية أخطر على مستقبل الشرق الأوسط من داعش، نافيا أن يكون انفتاح الولايات المتحدة على إيران مشابه لانفتاحها على الصين في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وهو الانفتاح الذي فتح المجال واسعا أمام انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي السابق.
كيسنجر، وهو “مهندس” الانفتاح الأميركي على الصين، يرى أن غياب “التوافق الاستراتيجي” بين إيران وبلاده مؤشّر قوي على أن فرص التلاقي ولدت ميتة، مستشهدا بتصريحات خامنئي المعادية للولايات المتحدة.
يبدو كيسنجر، أحيانا، في موقف مشابه لكتّاب عرب وأجانب كثيرين ينظرون إلى الحاضر من منظور الماضي، وهناك، بطبيعة الحال، فارق كبير بين استحضار خبرات الماضي في تفسير الحاضر والوقوع في أسر هذه الخبرات والانغلاق عليها. حيث يعتقد في جدية تصريحات خامنئي وينطلق منها في بناء موقف إيراني ويقارن هذه الموقف بموقف الصين في السبعينات والثمانينات، متجاهلا ما يدور في الداخل الإيراني من صراعات بين التيارات الأيديولوجية، وهي صراعات كانت بالتأكيد أخف وطأة في الحالة الصينية، حيث كانت تدار السياسة الخارجية من منظور مغاير ينطلق من طموحات القوة الصينية الصاعدة وطموحاتها التي تفوق طموحات إيران وأحلامها بمراحل.
ولا تجانب فكرة كيسنجر القائلة إن هناك غياب للتوافق الاستراتيجي بين إيران والولايات المتحدة على خلاف العلاقات الصينية الأميركية في السبعينات الكثير من الصواب، وربما العكس هو الصحيح؛ فما يجمع طهران وواشنطن من مشتركات الآن يفوق بمراحل ما كان يجمع بين واشنطن وبكين في بدايات رحلة الانفتاح التاريخية في العلاقات بين العاصمتين، ويبدو أن الرجل قد نسي مساحات الخلاف الأيديولوجي العميقة بين الصين والولايات المتحدة، فالدولتان كانتا تمتلكان مشروعين أيديولوجيين متناطحين، ورؤيتين مغايرتين للعالم، في حين أن إيران لا تعدو سوى أن تكون دولة إقليمية ذات نظام ثيوقراطي متشدد لا يمكن أن تقارن في قوتها وعنفوانها بقوة الصين وتطلعاتها خلال حقبة السبعينات من القرن العشرين.
ولعل أكثر ما يزعج كيسنجر ويثير لديه نبرة التشاؤم هو تركيزه الشديد على تحليل مضمون الخطاب السياسي للمرشد الأعلى الإيراني، مشيرا في ذلك إلى تصريحات خامنئي التي رفض فيها الانفتاح على الولايات المتحدة والحوار معها بشأن ملفات أخرى بخلاف الملف النووي، وهو خطاب لا يتجاوز كونه معدا للاستهلاك المحلي وإرضاء المتشددين من الملالي، وإلا ما وجدنا وزير النفط الإيراني بيجن زنغنة يتحدث إلى شركات النفط الأميركية مخاطبا إياها بأن السوق الإيرانية مفتوح أمامها ولا عوائق في ذلك، وحين سئل عن صحة تصريحات خامنئي بشأن عدم الحوار مع الجانب الأميركي سواء في الملف النووي تهرب من نفي أو تأكيد هذه التصريحات، بما يفيد بأنه يتحدث تحت مظلة ضوء أخضر من مؤسسة ولي الفقيه، والكل يعلم تماما أن الوزير الإيراني، ووفقا لهرمية السلطة وهيكلية النظام، لا يستطيع النطق بما قال ما لم يحصل على موافقة بذلك من صاحب القرار الأعلى في البلاد، وهو خامنئي.
أما حديث كيسنجر عن ترديد الساسة الإيرانيين تهديداتهم بشأن مصير إسرائيل، فهو يدرك قبل غيره أن إيران ووكلاءها الإقليميين، وفي مقدمتهم حزب الله، باتوا أقرب إلى إسرائيل منها إلى دول أخرى في المنطقة، وأن التهديدات الصادرة من طهران باتجاه دول خليجية تفوق بمراحل ما كان يوجه إلى إسرائيل قبل سنوات قليلة خلت.
في المجمل، اعتقد أن كيسنجر لن يقدر على إقناع النخبة السياسية الأميركية برفض “وثيقة إيران وجيرانها” التي تؤسس للتقارب الإيراني الأميركي، وتوصي بأن يكون هذا التقارب بداية مرحلة جديدة لاستعادة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وهي الوثيقة التي تحظى بدعم منظرين وخبراء أميركيين معروفين وشخصيات مؤثرة في بوصلة القرار الاستراتيجي الأميركي، ومن ثم ينبغي على الدول العربية والخليجية بناء حساباتها الاستراتيجية وفق الواقع الإقليمي الجديد.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك جزئية مهمة في رسالة كيسنجر أيضا تستحق الانتباه هي توقعه بأن يستمر تأثير التدخل الروسي في سوريا لعقود أربعة مقبلة على الأقل في تحد وصفه بالتحدي الجيوسياسي للنفوذ الأميركي، ويعتبره أحدث عرض لتفكك الدور الأميركي في المنطقة، وتحول المنطقة إلى حالة من الفوضى. وهذه النبرة التشاؤمية تخص السياسة الخارجية الأميركية بالأساس ولكن مايهمنا ـ كعرب وخليجيين ـ في هذه الجزئية أن كيسنجر يشخص التدخل الروسي في سوريا بطريقة مغايرة لما يتردد إعلاميا وتحليليا، ويعتقد أن ما يحرك روسيا هو قلقها من توابع انهيار نظام الأسد وانطلاق سوريا إلى سيناريو مشابه لليبيا، وتحولها إلى ملاذ قوي للإرهاب والإرهابيين، الذين قد يتجهون إلى توسيع نطاق عملياتهم إلى الحدود الجنوبية الروسية في القوقاز وغيره من المناطق، ويعتقد أن موسكو لا ترغب في بقاء الأسد للأبد، ولكنها تسعى بالدرجة الأولى إلى “تحريك التهديد الإرهابي من منطقة الحدود الجنوبية الروسية” في مناورة جيوسياسية مزعجة للنفوذ الأميركي.
ومن ثمة فعلى الدول العربية والخليجية إعادة قراءة خارطة الواقع وفهم حسابات الربح والخسائر للأطراف كافة في الأزمة السورية من أجل التعامل بواقعية تضمن للشعب السوري مصالحه وأمنه واستقراره في المقام الأول، وللدولة السورية تماسكها ووحدة أراضيها في المقام الثاني.