الفكرة المحورية تكمن في ضرورة وضع أولويات للمجتمعات والدول، والعمل عليها باهتمام وتركيز، كي تتمكن الشعوب من تجاوز كبوتها ومواصلة مسيرة التنمية والإسهام الحضاري والإنساني.
خلال الأزمة التي اندلعت مؤخرا في الهند على خلفية قتل أشخاص غوغاء من الهندوس رجلا مسلما بسبب تناوله لحم البقر المحرم عند هؤلاء، أدلى رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي بتصريح ربما لم يلفت انتباه الكثيرين وسط تسارع وتيرة الأحداث الإقليمية والدولية، حيث قال إن على المسلمين والهندوس مكافحة الفقر وليس محاربة أحدهما الآخر، والأهم من ذلك أن مودي قال إن “على الهنود تجاهل التصريحات غير المسؤولة التي يصدرها السياسيون”، بما في ذلك التصريحات المنسوبة له شخصيا، والعمل سويا من أجل محاربة الفقر، حيث ينبغي على البلاد أن تبقى موحدة.
هذه التصريحات جاءت على خلفية واحدة من أكثر القضايا حساسية وإثارة للجدل في الهند، حيث يعتبر الجدل حول أكل لحوم البقر إحدى القضايا التي يصعب بناء قواسم مشتركة حولها في بلد ملياري مثل الهند، ويكفي أن من قام بالاعتداء على الضحية المسلم، محمد أخلق، وأشبعوه ضربا وركلا حتى الموت في ولاية أتار براديش هم نواب في حزب “بهاراتيا جاناتا”، الذي يتولى الحكم حاليا في الهند.
أعجبتني حكمة رئيس الوزراء الهندي في التعامل مع هكذا حادث معقد في بلد فسيفسائي التركيبة السكانية والدينية، ومحاولة إعادة ترتيب أولويات شعبه والتوعية بأشد الأخطار التي تلعب دورا حيويا في تفجير مثل هذه القضايا المتعلقة بالحساسيات الدينية، حيث تعكس تصريحاته وعيا سياسيا دفعه إلى التحذير من التصريحات “غير المسؤولة” التي تسهم في إذكاء نيران التوتر الطائفي، حتى لو صدرت منه شخصيا.
ما قد يغيب عن الأذهان أن الملف الاقتصادي هو الذي حمل مودي وحزبه إلى تحقيق فوز انتخابي غير مسبوق منذ نحو ثلاثة عقود، وكان برنامجه الانتخابي القائم على التصدي لإشكاليات الفقر والفساد مثار تقدير الشريحة الهائلة من الشباب الهندي الذي يتطلع بشغف إلى الهند كدولة عظمى. ولعل إحدى العقبات التي تقف في طريق طموح الأجيال الهندية الشابة أن البلاد تعاني أحد أعلى معدلات الفقر في العالم، حيث تعتبر هذه المشكلة واحدا من أبرز التحديات التي تواجه الحكومات الهندية المتعاقبة، فهناك نحو 70 بالمئة من السكان يعيشون على أقل من دولار يوميا، أي أن نحو 30 بالمئة من سكان البلاد يعانون الفقر، وهو رقم هائل بمقاييس الديموغرافيا الهندية، حيث يعني هذا الرقم أن هناك ما يزيد عن 400 مليون فرد يعانون الفقر، أي ما يزيد عن عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية، وهذا العدد يتفاقم باستمرار في ظل وجود ملايين العاطلين عن العمل، الذين يتزايدون بمعدل مليون فرد شهريا، حسب بعض التقديرات، بما يعني أن مشكلة الفقر تمثل إحدى أخطر العقبات التي تعرقل مسيرة الهند نحو منافسة القوى العظمى في النظام العالمي القائم.
ترتيب أولويات المجتمعات هو مسؤولية الحكومات والقادة، ولا يجب أن يترك للإعلام والشارع ووسائل التواصل الاجتماعي كي تضع أجندات عمل يومية للشعوب تهرول وراءها دون تخطيط إستراتيجي يؤدي إلى نتائج محددة، كما يحدث في بعض الدول العربية. والمسألة هنا لا تتعلق بفكرة تعرف الحكومات على أولويات عملها، بل العمل على إشراك الجمهور في تحمل مسؤولية هذه الأولويات وإعادة رسم بؤرة التركيز الشعبي في حال انحرفت عن مسارها بأحداث طائفية أو عرقية أو انساقت وراء فتن ومؤامرات خارجية، وهذه هي مهمة الحكومات التي تعرف حقيقة مهامها.
ما يحدث أحيانا في بعض الدول العربية أن الحكومات ذاتها تنساق وراء الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتستلهم أجندة عملها من هذه المواقع، وتنسى أولوياتها الرئيسية التي وضعتها لنفسها واختيرت من أجلها، وتنساق وراء شائعة من هنا وخبر من هناك، بل تستريح بعد فترة زمنية لفكرة العمل “يوم بيوم”، أو العمل المرحلي الذي يؤتي ثماره، حسب اعتقادها، ويحصد إشادات إعلامية من هذا أو ذاك، ومن ثم تتراجع أجندة العمل الأساسية وتغيب الأفكار والخطط الكبرى، ويبرز ما يعرف بتسيير الأعمال، بحيث تصبح الحكومات على اختلاف شخوصها ومراحلها وفترات عملها بمنزلة حكومات لتسيير الأعمال. ومع إدراكي التام بأن فكرة حكومة “تسيير الأعمال” هي فكرة استثنائية سياسيا ولها ظروفها المغايرة للظروف المعتادة، ولكن الواقع يقول إن الفكرة تجد طريقها نحو الاستمرارية والتطبيق في الكثير من الأحيان.
فكرة مكافحة الفقر، باعتباره الأشد خطرا على فرص الشعب الهندي في تحقيق طموحاته التنموية والإستراتيجية هي فكرة جيدة، ونحن في العالم العربي لدينا أولوية مكافحة التطرف والتشدد، باعتباره القضية الأكثر خطورة على أمن واستقرار الكثير من دولنا بل وتماسكها ووحدة ترابها الوطني، وأزعم أننا لم ننجح، حتى الآن، في بناء توافق وطني نحتاجه بشدة حول أولوية هذه القضية، وبالتالي حشد الشعوب حولها ووضعها في بؤرة الاهتمام اللازمة.
قد يقول البعض إن الفقر والبطالة معضلتان أساسيتان في الدول العربية أيضا، بل هما السبب المباشر في التطرف والتشدد، وهذه وجهة نظر لها منطقيتها، ولكن ربما تكون نقطة الخلاف بين دولنا ودولة مثل الهند هي حول طبيعة العلاقة الجدلية بين الفقر والتطرف وأيهما ينتج الآخر، فهناك دول عربية تمتلك ثروات طبيعية وإمكانيات اقتصادية تؤهلها لتصبح قوة اقتصادية واعدة، وفي مقدمة هذه الدول قوى إقليمية بحجم مصر، ولكن ما يعوق رحلة هذه الدول نحو الصعود الاقتصادي بالأساس هو التشدد والتطرف اللذين ينتجان الإرهاب، ومن ثم تتوقف عجلات التنمية الاقتصادية عن الدوران.
الفكرة الأهم ليست في أيهما أسبق: الفقر أم الإرهاب، بل الفكرة المحورية تكمن في ضرورة وضع أولويات للمجتمعات والدول، والعمل عليها باهتمام وتركيز شديدين، كي تتمكن الشعوب من تجاوز كبوتها ومواصلة مسيرة التنمية والإسهام الحضاري والإنساني، وتلك هي “الرسالة” التي خرجت بها من تصريحات رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي.