* في دول عدة بمناطق مختلفة من العالم، كنت اعرف أن جيل الفيسبوك والآي فون يشكو تسلط جيل التلفاز والصحف الورقية وتحكمه في مستقبل الشباب، ولكني فوجئت أن المشكلة ذاتها قفزت إلى الواجهة في دولة عريقة في الحريات مثل بريطانيا، حيث كشفت استطلاعات رأي أجريت عقب ظهور نتائج الاستفتاء الذي أسفر عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أن جيل الشباب غاضب من مواطنيهم الأكبر سناً بعد أن كشف الاستطلاع أن 60% ممن هم فوق سن 65 عاماً صوّتوا مع الخروج في حين صوت معظم الشباب مع البقاء. وأكد استطلاع شمل 12 ألف شخص نشره معهد "مايكل اشكروفت" لاستطلاعات الرأي أن 73% ممن هم بين 18-24 عاماً و62% ممن هم في سن 25-34 عاماً صوّتوا مع البقاء. في حين صوت غالبية من هم فوق 65 عاماً مع المغادرة. وقال رئيس بلدية غول في يوركشير، شمال إنكلترا: "هناك فجوة عميقة بين الأجيال سيتعين علينا ردمها"، وهنا يبرز الحديث الشائك عن فجوة الأجيال التي لا تفرق بين دول دون اخرى بغض النظر عن تطورها وتقدمها الاقتصادي والتقني، فثورة المعلومات والاتصالات عمقت بالفعل الفجوة بين الأجيال وعلينا أن نتعامل مع هذا الواقع.
* جدل كبير بين المراقبين حول سلبيات وايجابيات استفتاء الخروج، ومن الخاسر والرابح في هذا الاستفتاء، ولكن الحكمة تقتضي القول أن هذه الحسابات قد تبدو سابقة لأوانها، فلم تتضح بعد تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والآثار والنتائج لا يمكن حصرها كلياً في ساعات معدودات، وهناك نتائج مرهونة بتفاعلات محادثات سيناريو الخروج النهائي، ولكن ما يمكن الاتفاق عليه أن نتائج الاستفتاء تمثل انتكاسة كبيرة لفكرة الوحدة والانماج ليس في أوروبا فقط بل في العالم أجمع، فقد جاءت الصدمة هذه المرة من قلب "النموذج الملهم"، الذي يمثله الاتحاد الأوروبي، الذي ظل لسنوات وعقود بمنزلة قدوة تحتذى للدول والتكتلات الاقليمية والدولية، فهل يتحول الاتحاد الأوروبي من نموذج ملهم في التأسيس والبناء والتطور إلى نموذج ملهم في التحلل والتفكك والانهيار؟ هذا ما ستجيب عليه السنوات المقبلة!
* هل يمكن القول أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بداية النهاية لموجة العولمة والعودة إلى حضن الدولة الوطنية؟ هذا وارد، ولكن الإشكالية أن التطورات على الصعيد الاقتصادي والتجاري تعمل على تفتت سيادة الدولة الوطنية، فهل يتعارض "السياسي" مع "الاقتصادي" أم أن الأمر لا علاقة له بالدولة الوطنية
بالمرة، وأنه يرتبط بالأساس بموجة تطرف يمينية تدفع باتجاه العودة إلى الأصول والمرجعيات ما دون الدولة، وهل يعني ذلك أن تصعد مرجعيات وولاءات قبلية ودينية وعرقية تنافس الدولة كغطاء استقرت المجتمعات المعاصرة على البقاء في ظله؟
* نظرية الدومينوز تعمل بجدارة في ميادين السياسة والأمن والاقتصاد، فهل ستعمل هذه النظرية بالكفاءة ذاتها وتتسبب في تتناقل عدوى الخروج من بريطانيا إلى غيرها من دول الاتحاد الأوروبي، بل إلى داخل بريطانيا ذاتها، وتتسبب في عودة بريطانيا إلى ما كانت عليه قبل نحو أربعة عقود مضت؟!
* هل ينتهز الاتحاد الأوروبي ضجيج الخروج البريطاني ويتخذ قراراً بخروج اقتصادات أخرى متعثرة من منطقة اليورو مثل الاقتصاد اليوناني، الذي تلقى ضربة جديدة عبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
* روسيا التي عانت في الأعوام الأخيرة آثار العقوبات الأوروبية، تشعر بغبطة دفينة منذ تلقي نبأ الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فهي تدرك أن الاتحاد أمامه عامين على الأقل كي يفيق من هذه الضربة القوية، سيمتنع خلالهما عن مناكفة روسيا، ناهيك عن أن الولايات المتحدة لن تجد شريكاً استراتيجياً مؤهلاْ لمسايرتها في أي قرار يخص معاقبة روسيا أو الضغط عليها اقتصادياً.
* ترتبط نتائج التصويت بالموقف البريطاني والعالمي من تيار العولمة والهجرة بشكل عام، حيث يتوقع أن تنحسر موجة العولمة نسبياً، لاسيما في حال فوز المرشح الجمهوري الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة المقبلة في نوفمبر المقبل، حيث يعد ترامب من دعاة الانعزالية الأمريكية الرافضين للهجرة والمعادين للأجانب والمسلمين منهم بشكل خاص. ما يغذي التيار اليميني الموازي في أوروبا، بحيث تكتسي العواصم العالمية بنزعة يمينية متطرفة خلال المدى المنظور مايضعف تيار العولمة واقتصاد السوق وغير ذلك.
* أكدت نتائج استفتاء الخروج أن استطلاعات الرأي في معظم الدول الغربية تجرى بشكل علمي ولها مصداقية كبيرة، فرغم توقعات بل تأكيدات معظم الساسة والخبراء أن الاستفتاء سيؤول إلى بقاء بريطانيا، فإن استطلاعات الرأي الجادة التي سبقت الاستفتاء بنحو أسبوعين ورجحت كفة مؤيدي الخروج ولم يصدقها أحد، كان لهذه الاستطلاعات مصداقية كبيرة، وأكدت حرفية القائمين عليها، فقد أظهر أكثر من استطلاع أبرزهم استطلاع مؤسسة أو.آر.بي الذي أجري لمصلحة صحيفة "إندبندنت" البريطانية ونشر قبل الاستطلاع بأيام قلائل، أن المعسكر المؤيد لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتقدم، ولكن معسكر مؤيدو البقاء كذبوا هذه النتائج ولم يتعاملوا معها بالجدية اللازمة!
* أخيراً، فرحة عربية غريبة عبرت عنها العديد من وسائل الاعلام العربية عقب نتائج استفتاء الخروج، والسبب، كما قال بعضهم، أن النتائج تمثل إضعافاً لبريطانيا وضربة لإسرائيل(!) في تعبير صارخ عن إجادتنا لفنون النكاية والمكايدة السياسية، فلا ننظر إلى مصالحنا الحقيقة في الأحداث، ولا تحكمنا حسابات موضوعية بل نبقى مرهونين بحسابات العناد حتى لو خسرنا كل شىء، فبريطانيا ليست الحليف الأوحد لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا لن تصبح جمهورية موز بخروجها من العباءة الأوروبية، ولكن ماذا عن حساباتنا في هذا الموقف.