لايمكن أن يغفل المراقب ما يدور حوله من تحركات استراتيجية بالغة الأهمية فى الأيام الأخيرة، حيث أعادت تركيا علاقاتها الاستراتيجية كاملة مع إسرائيل، وفى اليوم ذاته صدر اعتذار تركى إلى الكرملين بشأن حادث اسقاط الطائرة الروسية، ما يستوجب طرح تساؤلات حول مايجرى من حولنا فى هذه المنطقة الحيوية من العالم، ومحاولة البحث عن اجابات لها.
بداية، من الواضح أن هناك ترتيبات سبقت رسالة الاعتذار التركية، فرئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نيتانياهو قام بزيارتين متتاليتين إلى موسكو فى أوقات متقاربة بشكل لافت، فى ما بدت تركيا فى عجلة من أمرها لإعادة العلاقات مع روسيا فى أقرب وقت ممكن.
لا يمكن القول إن هذه التحركات التركية فجائية، فهى تحركات مدروسة توحى بها الاشارات الصادرة من أنقرة طيلة الشهرين الأخيرين، فمن يقرأ تصريحات المسئولين الأتراك عقب اسقاط الطائرة الروسية مباشرة، بدقة، يدرك أن أنقرة أدركت حجم الخطأ الاستراتيجى الذى ارتكبته حين تورطت فى هذا الحادث، ولكن كان هناك حاجة إلى الوقت لتمرير الرسائل واحتواء آثار الحادث وتداعياته فى الداخل الروسي.
الإشكالية الأهم فى هذا الحادث تمثلت فى المطلب الروسى الخاص باعتذار تركيا رسمياً، وهو أمر عصى على مدركات الجانب التركى وفقاً لما هو معروف عنه، لذا يمكن القول إن الفترة الماضية كانت أقرب إلى محاولة التملص من صيغة الاعتذار الرسمي، ولكن يبدو أن التوصل إلى صفقة تسوية العلاقات مع إسرائيل بموجب اعتذار اسرائيلى قد سهل مهمة المسئولين الأتراك فى تقديم اعتذار مماثل إلى روسيا وتسويقه داخلياً باعتباره أمراً عادياً لا يؤثر سلبياً فى صورة القيادة التركية، التى حصلت على اعتذار اسرائيلى وما يبرر أن تقدم فى الوقت ذاته اعتذارأً لروسيا.
لاشك أن الاقتصاد التركى قد تأثر بالغ التأثر بالأزمة مع روسيا، والأمر لم يتوقف عند الاقتصاد فقد تعقدت أزمات المنطقة وتأثرت مصالح تركيا بشدة جراء هذه الأزمة وما فاقم وضعية الرئيس أردوجان أن الحليف الأطلسى الأمريكى بات يلعب بوضوح فى قلب منطقة المصالح الاستراتيجية التركية، ولا يبالى بمخاوف أنقرة وهواجسها حيال وضعية الأكراد بالنسبة للدولة التركية.
للموضوعية أيضاً، فإن الأزمة التركية ـ الروسية، أديرت بحكمة دبلوماسية شديدة من الجانب التركي، وأثبتت موسكو أنها تتكيء فى علاقاتها الخارجية على موروث تاريخى عميق من التجارب والأحداث فى مثل هذه المواقف والأزمات الساخنة، وعلى هذا الأساس فقد تصرف الرئيس بوتين كرجل دولة قادر على الحفاظ على مصالح بلاده من دون التورط فى مواجهات عسكرية انفعالية، بل إنه تحدث بعد مضى أشهر من حادث اسقاط الطائرة الروسية بشكل هاديء وعقلانى داعياً تركيا إلى تبنى «خطوات محددة» لاحتواء آثار هذا الحادث، ومن ثم فقد أزال الحرج عن القيادة التركية.
الجانب التركى أيضاً يدرك تبعات الزلزال السياسى الذى دار حوله فى الاتحاد الأوروبي، وأدرك أن من الصعب أن يستمر فى التوتر مع تركيا ويجازف باستمرار فقدان تبادل تجارى يصل إلى 60 مليار دولار سنويا مع روسيا قبل أزمة اسقاط المقاتلة، كما يجازف بالقاء أوراقه الاستراتيجية جميعها فى سلة الحليف الأمريكي، الذى لم يراع مصالحه فى الأزمة السورية، ومن ثم كان التقاط خيط البراجماتية فى الأزمة الروسية بديلا استراتيجياً لا غنى عنه للحفاظ على مصالح تركيا.
بطبيعة الحال هناك خاسرون ورابحون فى التسويات التركية المتسارعة اقليمياً، ومن هؤلاء التنظيمات الدينية ذات الطابع السياسي، التى يصعب على أردوجان الحفاظ على خيط الدعم القوى لها من دون مراعاة لمخاوف الحليفين الاسرائيلى والروسي، كما أن الجانب الأمريكى سيراقب بتشكك مسار أردوجان الجديد حيال روسيا، وكذلك سيفعل شركاء حلف الأطلسى الذين يتمددون استراتيجياً نحو الحدود الروسية. هناك أيضاً التنظيمات الفلسطينية التى يجب عليها ألا تنتظر دعماً قوياً من الجانب التركي، الذى سيتوجه على الأرجح إلى مسار المساعدات والاغاثة الانسانية والتركيز عليهما خلال الفترة المقبلة حفاظاً على مصالحه مع الحليف الاسرائيلي.
هناك أيضاً حسابات تخص الأزمة السورية، فتباين المصالح قائم وعميق بين روسيا وتركيا، تبقى تساؤلات حول تبعات هذه التطورات وتأثيراتها فى علاقات تركيا داخل محيطها الجغرافى، هنا يمكن التكهن بأن الاعتذارات والمصالحات التى تمت قد تكون لها تأثيرات فى ملفات خلاقية أخرى مثل ملف الخلاف التركى المصري، الذى قد لا يتجاوز فى عمقه وأبعاده ما حدث بين تركيا وإسرائيل أو بين تركيا وروسيا، وبالتالى تصبح التسوية واردة فى هذا الملف شأنه شأن بقية الملفات الخلافية التركية، ولكن شريطة توافر ظروف معينة منها حسابات تركيا الاستراتيجية اقليمياً، ومدى رغبتها فى استعادة التقارب مع دولة عربية مؤثرة بحجم وثقل مصر، فضلاً عن موقف مصر ذاته، ومدى رغبتها فى ترميم علاقاتها مع تركيا والقفز على ما حدث من توترات وتراشقات كلامية خلال الأعوام الأخيرة. ولكن ما يمكن القطع به أن هناك إعادة تفكيك وتركيب للعلاقات الدولية والاقليمية فى المرحلة المقبلة، وينبغى على دول مجلس التعاون الاشتباك السياسى مع هذه التطورات وتعظيم فرصها والاستفادة منها.