في عالم السياسة والعلاقات الدولية، لا تمضي الأمور وفق منطق البسطاء والسذج، بل إن لكل لفتة أو إيماءة أو إشارة أو سلوك من طرف تجاه آخر، معان ودلالات. ومن أشهر من استخدموا لغة الإشارة ـ إن صح التعبيرـ في العمل الدبلوماسي في العصر الحديث كانت وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق مادلين أولبرايت، التي حكت “كواليس″ لغة الإشارة التي استخدمتها بغزارة لافتة طيلة فترة وجودها بمنصبها في كتابها المعنون “أقرأ دبابيس الزينة الخاصة بي: قصص من صندوق حلي الدبلوماسية”، وهو الكتاب الذي حظي بشهرة واسعة، وسلّط الضوء على لغة دبلوماسية فريدة استخدمتها وزير خارجية الدولة الأقوى في العالم لسنوات طويلة لتوصيل رسائل سياسية، بحيث وظفت صندوق جواهرها سياسيا طيلة ثماني سنوات قادت فيها الدبلوماسية الأميركية بالأمم المتحدة ثم وزارة الخارجية؛ ومن ذلك دبوس على شكل “ثعبان” حرصت أولبرايت على ارتدائه في جميع جلسات الأمم المتحدة حول العراق.
وفي كتابها هذا، كشفت أولبرايت عن أنها بعثت برسالة سياسية إلى الروس حين اكتشفت تجسّسهم على السفارة الأميركية في موسكو، فوضعت دبوس صدر على شكل “حشرة فراش” لترسل رسالة مزدوجة إلى الروس، لإبلاغهم أنها تعرف أنهم يتجسسون على الأميركيين، وأن أسلوب التجسس هذا يناسب نوعية الحشرة التي اختارتها لنقل الرسالةّ.
واللافت أن قادة ومسؤولي الدول كانوا يترقبون دبابيسها ويحاولون فك رسائلها، ومن ذلك ـ بحسب رواية أولبرايت في كتابها ـ أنها زارت روسيا برفقة الرئيس الأسبق بيل كلينتون عام 2000، حيث بادر الرئيس بوتين بالقول “إننا نلحظ ما تريديه الوزيرة أولبرايت (كانت ترتدي دبوس زينة يحمل أشكال ثلاثة قرود في إشارة إلى عبارة “لا أرى لا أسمع لا أتكلم”) فلم يفهم بوتين المغزى أو ربما أراد التيقن مما فهم فسأل أولبرايت عما يعنيه هذا الدبوس، فأجابته بأنها تقصد سياسة روسيا إزاء الشيشان، فشعر بوتين بالسعادة من وجهة نظرها.
كثيرة هي قصص لغة الدبلوماسية وإشاراتها ورسائلها، وأعتقد أن ما حدث خلال زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الصين مؤخرا للمشاركة في قمة العشرين ينتمي إلى نفس منطق “لغة الرسائل والإشارات”. ورغم النفي الإعلامي الرسمي الصيني لوجود أيّ رسائل إهانة للرئيس الأميركي في مراسم الاستقبال التي أُعدت له، وأن وسائل الإعلام الغربية هي من اختلقت قصة “إهانة” الرئيس أوباما، بحسب قول صحيفة “غلوبل تايمز″ (لسان حال الحزب الشيوعي الصيني)، فإن الأمر لا يخلو من رسائل واضحة، ولا يعقل أن تعترف الصين بأنها تعمدت هذه الإهانة، أو حتى سمحت بحدوثها، لأن ذلك سيجلب بالضرورة احتجاجا أميركيا ويتطلب اعتذارا رسميا وسيترك حتما آثار وخيمة على علاقات القطبين الدوليين
في مقابل ما ذكرته الصحيفة الصينية، التي تعبّر أحيانا عن وجهات نظر رسمية، فإن تقارير إعلامية عدة قد نقلت عن أكاديميين صينيين قولهم إن تصرف الجانب الصيني مدروس ومتعمد ولا يمكن أن يحدث عفويا، وأنه يمثل تعبيرا عن استياء بكين من التدخلات الأميركية في شؤون الصين وبحر الصين الجنوبي.
يقول البعض إن ما حدث خطأ بروتوكولي أو إداري في أغلب الأحوال، ولكن الاستسلام لفكرة وقوع مثل هذه الأخطاء في مناسبة كبرى كهذه في الصين ومع رئيس أقوى دولة في العالم ينطوي على إفراط في السذاجة السياسية، لا سيما بعد المشادات الكلامية التي جرت على أرض المطار، وتسببت في خروج مستشارة الأمن القومي الأميركي سوزان رايس عن شعورها.
الأغلب أن الأمور ربما خرجت قليلا عمّا توقعه الجانب الصيني وتسبب في توتير أجواء مشاركة الرئيس الأميركي في قمة العشرين، ولكن الواقعة ذاتها لم تكن وليدة خطأ عابر يصعب تصديقه في مثل هذه الأحوال.
في تفسير هذه الواقعة، ذهب المتخصصون، وحتى محللو الفيسبوك، إلى مناح عدة، منها تعمد الصين إهانة الرئيس الأميركي وغير ذلك، ولكن متابعي الملف الصيني ـ الأميركي، يدركون تماما أنه من الصعب على القادة الصينيين المغامرة بإهانة الرئيس الأميركي حتى ولو كان على بعد ساعات ـ وليس أشهرا ـ من مغادرة منصبه، فهو بالأخير رمز لأقوى دولة في العالم، والمصالح الاستراتيجية بين قوتين كبريين مثل الولايات المتحدة والصين لا يمكن المجازفة بها في ساحات التراشق الإعلامي والتلاسن الصحافي.
ماذا حدث إذن طالما أن الأمر لا يتعلق بإهانة متعمّدة؟ الأرجح أنه مجرد رسالة سياسية عابرة لإخطار الجانب الأميركي بأن الصين غاضبة من سياسات واشنطن حيالها. كما أن هذه الواقعة تحديدا يجب مناقشتها وتفكيكها في ضوء مكانة الصين المتنامية وإحساسها المتصاعد بالذات والمكانة العالمية، فلم تعد الصين دولة نامية بالمعنى المتعارف عليه مفاهيميا، بل باتت قوة دولية كبرى ذات تأثير في موازين القوى العالمية، وليس مقبولا ـ في وضع كهذا ـ أن تمرر تصرفات أو سلوكيات أي من أعضاء الوفد الأميركي حتى لو تعلق الأمر بمستشارة الأمن القومي الأميركي.
لا يجب أيضا فهم الواقعة بمعزل عن سياقات قمة العشرين، التي تعاملت معها الصين كبوابة رسمية لتدشين وضعية الصين في الاقتصاد العالمي، وهو ما ينتج بالتبعية سلوكيات وردود أفعال لدى الجانب الصيني المضيف، الذي كان أفراده في ذروة حماسهم للتعامل مع وفود الدول الزائرة وفق الوضعية التي ارتقت إليها بلادهم، ومن ثم يصبح الانفعال والردود غير المتوقعة، مثل الرد على رايس بالقول إن “هذه بلادنا وهذا مطارنا” أمر بديهي ومفهوم.
الإشكالية أن حديث بعض “الشامتين” في ما اعتبروه “إهانة” للرئيس الأميركي ينطوي بحد ذاته على إهانة وعدم تقدير لقوة الصين ومكانتها، فقد تناسى هؤلاء أن الصين ليست دولة صغيرة تسعى إلى كسب نقاط إعلامية سخيفة عبر “إهانة” رمزية لرئيس أقوى دولة في العالم، بل هي قوة كبرى تتصرف وفق مسؤولياتها الجديدة في النظام العالمي، وهي أيضا قوة اقتصادية دولية عظمى، وتمتلك أضخم احتياطي للعملات الصعبة والدائن الأول للولايات المتحدة الأميركية، والقوة المتحكمة في مفاصل أسواق المال والأعمال في العالم، ولكن هذا كله لا ينفي في المقابل أن الصين يمكن أن تسعى إلى إرسال رسالة سياسية معتادة بين الكبار، ولكن ليس بالشكل الذي فهمه البعض، أو بالأحرى أنها تصرفت وفق منطق “دبابيس″ أولبرايت فوضعت “دبوسا صغيرا” استوعب الجانب الأميركي معناه ودلالاته من دون شك.