أعلنت الصين مؤخراً عن خطط لإنشاء 50 ألف مدرسة ـ لاحظوا الرقم ـ لكرة القدم بحلول عام 2025، وقال نائب رئيس الاتحاد الصيني لكرة القدم، وانغ دينغفينج في تصريحات صحفية إن كل مدرسة ستضطلع بتدريب ألف لعب شاب في المتوسط، أي أننا بصدد الحديث عن 50 مليون شاب يتعلمون مهارات كرة القدم في هذه المدارس فقط!! وكانت الصين منذ فترة قد أعلنت عن خطة لإنشاء 20 ألف مدرسة بحلول عام 2020، في مسعى لأن تصبح الصين قوة عظمى في عالم كرة القدم.
الصين تتطور في كرة القدم بوتيرة متسارعة للغاية كما هو حالها في بقية قطاعات التنمية، واذكر أن الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان قد أشار إلى ذلك في مقال له مؤخراً بشكل عارض في إطار نقده لإدارة الرئيس ترامب، وقال إن الصينيين ربما يكونوا قد أضافوا خط سكة حديدية فائق السرعة، خلال الفترة التي مضت منذ انتخاب ترامب رئيساً، وحتى الآن في إشارة إلى عمق القلق الأمريكي حيال النمو المتسارع والصعود القوي للصين.
يلفت انتباهي في حديث المسؤولين الصينيين عن كرة القدم أنهم يتعاملون معها باعتبارها مصدر للقوة والنفوذ المستقبلي وليست مجرد "لعبة" كما هو حال كثير من دولنا، فهم يتحدثون عن اللاعبين باعتبارهم "موارد مستقبلية"، لذا فإنهم يخضعون الأمر للتخطيط الدقيق المعروف عنهم، وتكفي الإشارة إلى أن خبراء صينيين يعكفون على تصميم 360 برنامج تدريب وتنمية مهارات كرة القدم تمهيداً لتطبيقها في المدارس الإعدادية والثانوية.
في واقع الأمر أن المنتخب الصيني لكرة القدم لم يتأهل لكأس العالم سوى مرة واحدة، ولكنهم يخططون منذ الآن للفوز بكأس العالم بحلول عام 2050، والأرجح أنهم سيفعلونها، بعد أن أصبحت الرياضة صناعة ضخمة متشعبة ولم تعد مجالاً للهواة، فالرئيس الصيني شي جينبينغ يتابع بنفسه هذا التخطيط، والحكومة أدرجت ضمن استراتيجياتها انشاء 70 ألف ملعب لكرة القدم من أجل تعويض النقص في هذا المجال.
نسمع في السنوات الأخيرة عن احتراف لاعبين كبار مشاهير في الصين، بعد انطفاء بريقهم في عالم كرة القدم والدوريات الأوروبية، وهذه مرحلة ستمر سريعاً، وربما يصبح الدوري الصيني أحد رهانات مشاهير اللاعبين في السنوات المقبلة، بسبب التزايد الملحوظ في حجم انفاق الأندية الصينية واستثماراتها في كرة القدم، وقد نبه أنطونيو كونتي مدرب نادي تشيلسي الإنجليزي إلى ذلك عندما قال إن الأندية الصينية باتت تشكل خطراً على جميع الفرق في العالم، وكان يشير في ذلك إلى حجم الاستثمارات والانفاق المالي لهذه الأندية، وكان تصريحه هذا قد ورد عقب توقيع أحد لاعبي تشيلسي على عقد بقيمة 60 مليون إسترليني للانتقال إلى فريق شنغهاي خلال شهر يناير الماضي.
الأندية الصينية باتت تحطم الأرقام القياسية في شراء اللاعبين من أوروبا، وهذه مرحلة انتقالية تستهدف توسيع قاعدة انتشار لعبة كرة القدم في الصين، إدراكاً من القيادة هناك لتأثير اللعبة الشعبية الأولى عالمياً في المكانة والنفوذ الدولي وتسويق النموذج وبناء الصورة الذهنية الصينية عالمياً خلال العقود المقبلة، فضلاً عن أن وجود لاعبين مشاهير سيسهم في إنجاح خطط توسيع قاعدة انتشار اللعبة في الصين وانضمام ملايين الشباب هناك لممارساتها، وهو ما يمكن أن يتحول يوما ما إلى صادرات رائجة للعالم أجمع، بحيث ينضم لاعبو كرة القدم الصينيين إلى قائمة طويلة جداً من الصادرات الصينية إلى أسواق العالم!
يدرك الصينيون أن المبالغ الطائلة التي يدفعونها في شراء اللاعبين حالياً هي استثمارات جيدة، ويعرفون أنها ستدر عليهم دخول هائلة في المستقبل، فالتحول إلى قوى عظمى أو إقليمية مسألة تتطلب تفكيراً استراتيجياً شاملاً لا يستثني أياً من المجالات، ولا يستهين بأي شيء، فالعشوائية لا يمكن أن تتكيف مع التخطيط حتى لو كانت في لعبة رياضية، فبناء قوة شاملة للدول يتطلب تفكيراً موسوعياً شاملاً، يحول القطاعات كافة إلى موارد تدر دخلاً بموجب خطط دقيقة، ومن ذلك كرة القدم، والتفكير الصيني في هذا الشأن يساير إحداثيات العصر، ويتماشى مع التنافسية الشرسة في القرن الحادي والعشرين، حيث ستنشب صراعات تنافسية هائلة على احتلال مقعد الصدارة في الاقتصاد العالمي، ولنا أن نعرف أن الاقتصاد الهندي مرشح للتفوق على الاقتصاد الأمريكي في غضون العقدين المقبلين، بحيث يحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين مباشرة، وسيزيح بذلك اقتصادات يشار إليها بالبنان حالياَ.
لا استغرب نجاح الصين وتفكيرها بهذا الشكل العلمي المدروس في عالم كرة القدم، بعد أن اكتسحت في العقد الأخيرة الألعاب الأولمبية وأولمبياد المعاقين، وما يؤكد ذلك أن الموقع الالكتروني للاتحاد الصيني لكرة القدم قد نشر خطة استراتيجية تتضمن أهدافاً متعددة المدى، قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، من بينها ضمان توفير ملعب كرة قدم لكل 10 آلاف شخص في الصين بحلول عام 2030، والمؤكد أن هذا التخطيط لا يمكن أن تجده في غالبية دول العالم، فاتحادات الكرة في الدول العربية على سبيل المثال لا تضع في مواقعها الالكترونية سوى صور مسؤوليها بجانب صور تذكارية للكؤوس والدروع التي فازت بها فرقهم!!!
واقع كرة القدم الصينية لم يتسبب في نشر الإحباط كما يحدث في بعض دولنا العربية، فحال الصينيون في كرة القدم حالياً لا يخفى على البعض، وفضائح الفساد تجتاح أنديتهم، ولكن ذلك لا يقف حائلا دون المضي للأمام والتخطيط والعمل على تغيير هذا الواقع البائس، وهذه الروح تنقص الكثير من دولنا، التي تستسلم لأعراض الفساد!!
يقول الخبراء الغربيين أن الصين تسعى لاستثمار أموالها في مجالات جديدة مثل كرة القدم، وتريد أن تكون مسيطرة في كل شيء وكل مجال، وربما تكون كرة القدم هي المجال الوحيد الذي لا يذكر فيه اسمها، لذا فهي تريد اقتحامه من خلال التخطيط طويل المدى، حيث تشير التوقعات إلى أن حجم صناعة كرة القدم في الصين بحلول عام 2025 يقدر بنحو 840 مليار دولار رغم أن التقديرات الخاصة باقتصاد كرة القدم في الوقت الراهن لا تتجاوز 400 مليار دولار!!.