لاخلاف على أنّ الزيارة التاريخية التي قام بها مؤخراً العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا سيكون لها تأثيرات استراتيجية بالغة من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية.
تحليلات كثيرة تتعلق بالزيارة ولكني أرى أن بعضها قد ذهب بعيداً نحو مربع «التحليل بالتمني» حيث يرى بعض المحللين أن الزيارة تعني أن السعودية قد نفضت يدها من الولايات المتحدة وأنها أدركت توازنات القوى العالمية الجديدة، وأن هذه التوازنات باتت تميل لمصلحة روسيا وأنّ الزيارة تعكس القناعات السعودية الجديدة! وهذا الأمر غير صحيح بالمرة، فالسياسة لم تعد تعترف بفكرة الانحياز ولا عدم الانحياز، بل هناك دوائر تحرك استراتيجية للحفاظ على المصالح، وهذا يعني أن السعودية بإمكانها بناء علاقات إيجابية قوية مع روسيا من دون أن تتأثر علاقات الشراكة الاستراتيجية القائمة بين الرياض وواشنطن قيد أنملة، والولايات المتحدة نفسها تتفهم مثل هذه الأمور، وتدرك أبعادها، وإلا فما معنى صمت الولايات المتحدة على تحركات الحليف الأطلسي التركي وتقاربه غير المسبوق على الصعيد العسكري والاستراتيجي مع روسيا، علماً بأن مثل هذه الأمور كانت تعد تجاوزاً للخطوط الحمر خلال مرحلة الحرب الباردة والسنوات التي تلتها مباشرة!
العالم يتغير وقواعد اللعبة الجيواستراتيجية تتغير، وما كان يصلح لإدارة العلاقات الدولية إبان النصف الثاني من القرن العشرين، لم يعد صالحاً خلال المرحلة الراهنة، ولا يجب أن ننسى أن خارطة التحالفات والصراعات الدولية قد تغيرت تماماً، بل إن مفهوم الصراع ذاته قد شهد العديد من التغيرات الملموسة على أرض الواقع، كما أن البحث عن التطابق التام في المصالح لم يعد أمراً واقعياً ولا قابلاً للتطبيق، فكل الدول تتحرك في دوائر مصالحية متداخلة مع بعضها البعض، وتبقى المهارة الدبلوماسية هي الفيصل في كسب أكبر مساحة ممكنة من المصالح وسط هذا التدخل والتعقيد في المصالح من خلال توظيف الأوراق وانتزاع «الممكن» في صراعات الحلفاء والخصوم على حد سواء.
بشكل عام، فإن الزيارة يمكن رؤيتها من أكثر من زاوية نظراً لأهميتها، فهي تعكس الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط من خلال البوابة السورية، كما أنها تمثل قراءة سعودية واعية للمتغيرات الجيدة في المنطقة والعالم، فضلاً عن السعي لإعادة بناء العلاقات مع روسيا بما يضمن دفع موسكو لقراءة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من منظور جديد، أو على الأقل دفع الكرملين إلى تبني حالة من الحياد في الصراع عبر ضفتي الخليج العربي.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعليقه على مستقبل الشراكة الأمريكية السعودية في ضوء زيارة العاهل السعودي لموسكو، قال إنه «لا يوجد في العالم أي شيء دائم». وقال بوتين في كلمة له أثناء المنتدى الدولي حول فعالية الطاقة في موسكو رداً على ما قاله منسق حلقة النقاش من أنّ الولايات المتحدة ستبقى دائما الحليف الأساسي للسعودية في الشؤون الجيوسياسية «هل يوجد في العالم شيء دائم بشكل مطلق؟ يبدو لي أن العكس صحيح، وكل شيء يتغير... فيما يتعلق بأن هناك دولا شريكة لنا تنتهج سياسة خارجية مستقلة لها، فإن ذلك أمر طبيعي تماماً، وعندما نطوّر العلاقات مع هذا البلد أو ذاك فإننا نعلم ونفهم ذلك ونأخذ هذا الواقع في الاعتبار، إلا أن هذا لا يمنعنا من تطوير العلاقات مع هذا البلد».
حديث الرئيس الروسي فيه قدر من الصواب، ولكن ليس بشكل مطلق، فهناك ثوابت في علاقات بعض الدول ببعضها، والعلاقات الأمريكية - السعودية عادت إلى المنطقة الدافئة منذ تولي الرئيس ترامب السلطة في يناير الماضي، ولكن هذا لا يعني إغلاق الباب أمام سعي الرياض لاستخدام نفوذها وقوتها ومكانتها من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية.
ومن المؤكد أن الزيارة ستفتح الباب أمام دور روسي مهم في الضغط على إيران من أجل وقف سياستها التوسعية في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما أن روسيا تريد إثبات نفسها كلاعب دولي مؤثر ويحظي باحترام وثقة اللاعبين الإقليميين والدوليين على حد سواء، وهي أيضاً داعم مهم لإيران ومن ثم فإن لمواقفها تأثير كبير في سياسات وتوجهات الملالي.
السعودية تتحرك باتجاه نزع أو تحييد دعائم إيران في منطقة الشرق الأوسط، وتريد أن تضمن بقاء إيران منفردة في حال أصرت على مواقفها التصعيدية تجاه المملكة، كما يمكن أن تفتح الزيارة الباب أمام دور روسي حيوي في تسوية الأزمة اليمنية عبر دور روسي فاعل، لاسيما أن موسكو باتت متحمسة لمواصلة إثبات فاعلية سياساتها في منطقة الشرق الأوسط.
بناء شبكة مصالح سعودية مع روسيا سيكون له تأثير مؤكد في سياسات روسيا في الشرق الأوسط، وهذا هو معنى ترجمة النفوذ السعودي وأوراق الضغط التي تمتلكها المملكة للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي.