لا يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية بصدد إجراء أي مراجعة لموقفها الخاص بمدينة القدس، منذ صدور قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.
لم يكد يمض أسبوع واحد على قرار القدس، حتى تحدث مسؤول أمريكي عن أن "حائظ المبكى" (البراق) يجب ان يبقى بيد إسرائيل في كل الأحوال، وأكد البيت الأبيض أن الولايات المتحدة تعتبر «حائط المبكى» في القدس (أي حائط البراق وهو الجدار الغربي للمسجد الأقصى) جزءاً من إسرائيل. وجاءت هذه التصريحات على لسان مسؤول كبير في البيت الأبيض، قبيل زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس المقررة إلى إسرائيل الأسبوع المقبل!
لا اعتقد أن هذا الكلام يصدر عن الإدارة الأمريكية بشكل جزافي أو عشوائي، بل اعتقد أن يمثل تهيئة مدروسة لإعلان خطة أمريكية متكاملة بشأن السلام في الشرق الأوسط، حيث يجرى "تمرير" كل نقطة من نقاط هذه الخطة في توقيت مناسب وامتصاص ردات الفعل المصاحبة لها، على أمل أن يتم الانتهاء من تمرير جوانب الخطة بأكملها بعد فترة زمنية محددة لا يعرفها سوى أصحابها!
الإدارة الأمريكية الحالية تفكر في مسألة ردود الأفعال هذه بشكل مغلوط، فهي تعتقد أن الانفعال والغضب الذي يتلوه هدوء هو كل مافي الموضوع، وهذا أمر غير صحيح، فلم يتطرق أحد إلى أن الدول العربية والإسلامية ستشن حرباً عالمية على الولايات المتحدة بسبب مواقفها المنحازة لإسرائيل، فهذا غير وارد بالمرة لاعتبارات وأسباب يعرفها الجميع في مقدمتها توازنات القوى، السياسية والاستراتيجية والعسكرية، التي لا تسمح سوى بما هو قائم حالياً من ردود الأفعال.
لو قرأ البيت الأبيض التحذيرات التي وجهت له جيداً لأدرك أن الأمر لا يتعلق برد فعل رسمي من دول عربية وإسلامية، بل من التبعات غير المعروفة للانحياز الأمريكي، فالكل يعرف أن هناك توظيف سياسي لمواقف الولايات المتحدة في المنطقة وهناك تجارة رائجة بالشعارات سواء من جانب قادة ديماجوجيين مثل زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله وملالي إيران وقادة تنظيمات الإرهاب وغيرهم، وهناك لعب على مشاعر ملايين الشباب العربي والمسلم، وهناك خلط للأوراق ربما ينتج عنه تخطيط لاعتداءات إرهابية سواء بشكل منظم، أو من خلال تصرف فردي وفق نظرية "الذئاب المنفردة"، التي عاني منها الغرب على وجه التحديد كثيراً خلال العامين الماضيين.
يبدو أيضاً أن الإدارة الأمريكية قد أعجبها أسلوب "الصدمة والترويع" الذي تتبعه تنظيمات الإرهاب في الردع والتخويف، واستنسخته في العمل الدبلوماسي، وبدلاً من إطلاق جهود للتواصل مع العالم العربي والإسلامي وبناء قنوات حوار ليس لامتصاص الغضب ولكن للعمل معاً في إيجاد آليات جادة لتحقيق السلام الشامل والعادل، لجأ البيت الأبيض إلى استباق جولة نائب الرئيس مايك بنس بهدية ثانية لإسرائيل، ليثبت أن إدارة ترامب لا تريد فقط استقطاب مؤيديها في الداخل بالوفاء بوعد ترامب خلال حملته الانتخابية، بل هي مقتنعة تمام الاقتناع بما تفعله لتتأكد التحليلات الغربية الخاصة بخضوع البيت الأبيض لتأثير بعض المقربين منه وأصدقائه من رجال الأعمال المتشددين الموالين لإسرائيل.
هل هكذا تحل القضايا السياسية، البيت الأبيض تصور أن الصدمة ستدفع الجانب الفلسطيني للصراخ وطلب عقد مفاوضات سلام وتقديم تنازلات خشية أن تضيع مزيد من الأرض، كما تصور أيضاً أن هديته للجانب الإسرائيلي ستساعد واشنطن في الحصول على ما تعتبره "تنازلات" لإتمام أي عملية تفاوضية مزمعة باعتبار أن من الصعب أن يقول "بيبي" لا لمن منحه هدية تاريخية مجانية لإسرائيل!
هذا التفكير، إن صح، فقد تسبب بالفعل في ضياع أوراق واشنطن التفاوضية، فالتفاوض أساساً عملية معقدة يتمسك كل طرف فيها بأوراق الضغط لا أن يلقيها قبل أن يجلس على طاولة التفاوض!! ومن ثم فإن الاستمرار في تقديم الهدايا المجانية لإسرائيل ليس في مصلحة عملية السلام ولن يحقق لإدارة ترامب أي إنجاز سوى تقويض هذه العملية ونسف أسسها وعزل الولايات المتحدة عنها.