جاء خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام منتدى "دافوس" دالًا على التحولات التي طرأت على أفكار الرئيس الأمريكي بعد عام من وجوده في منصب رئاسة الولايات المتحدة؛ فقد جاء الخطاب هادئًا مكتوبًا بشكل دقيق جدًا على عكس تصريحات ترامب الرنانة، وبدا واضحًا أنه يحاول تصحيح صورته الذهنية أمام العالم، حيث أكد للحاضرين أن هدفه الخاص بوضع "أمريكا اولًا" هو هدف سياسي تقليدي، وأنه لا يستبعد التعاون مع الدول الأخرى، وقال "بوصفي رئيس الولايات المتحدة سأضع دائمًا أمريكًا أولًا، تمامًا مثل زعماء الدلو الأخرى، الذين يتعين عليهم أن يضعوا دولهم أولًا أيضًا". والأهم من ذلك أنه أضاف "لكن أميركا أولًا لا تعني أميركا وحدها..عندما تنمو الولايات المتحدة، ينمو العالم أيضا.. وفر الازدهار الأميركي عددًا لا يحصى من الوظائف في مختلف أنحاء العالم، ودفعت حملة التفوق والإبداع والابتكار الأميركية لاكتشافات مهمة تساعد الناس في مختلف أنحاء العالم للعيش في مناخ أكثر رخاء والتمتع بالمزيد من الصحة".
حاول ترامب في خطابه بناء شراكات دولية، خصوصًا في ما يتعلق بمواجهة خطر إيران، حيث أدرك الفريق الرئاسي أن ترك ترامب يتحدث في "دافوس" على "سجيته" يعني مزيد من الكوارث للدبلوماسية الأمريكية والارتباك والإشكاليات لوزير خارجيته تيلرسون، الذي يقضي وقتًا طويلًا في "لملمة" آثار تغريدات الرئيس ومعالجة آثارها السلبية على الدول والشعوب!
خيب ترامب وخطابه التوقعات ولم يكرر مواقفه الحمائية التي أغضبت شركاء الولايات المتحدة قبيل توليه منصب الرئاسة وبعدها، فالكل في "دافوس" كانوا يحبسون أنفاسهم تحسبًا لشرخ جديد في العلاقات الدولية في حال كرر الرئيس ترامب مواقفه الحمائية أو أصر على انعزالية السياسة الخارجية الأمريكية، ولكنه قال "أنا هنا لأمثل مصالح الشعب الأميركي ولأؤكد صداقة الولايات المتحدة وتعاونها لبناء عالم أفضل"، وعبر بشكل أفضل في خطابه عن وجهة نظره بشأن حماية مصالح الولايات المتحدة حيث قال "نحن نؤيد التبادل الحر، لكن يجب أن يكون عادلًا، ويجب أن يكون متبادلًا"، وحذر ترامب شركاء تجاريين من أن واشنطن لن تتسامح بعد الآن مع التجارة غير العادلة قائلًا، إن الممارسات المسيئة تشوه الأسواق. وأضاف قائلا "لا يمكن أن يكون لدينا تجارة حرة ومنفتحة إذا استغلت بعض الدول النظام على حساب آخرين".
خلال الخطاب اتضح أيضًا لماذا يحاول ترامب أن يتبنى موقفًا هادئًا عقلانيًا، حيث انتقل في فقرات كثيرة إلى محاولة اقناع رجال الأعمال والمستثمرين ورؤساء الشركات بأن الولايات المتحدة هي المكان الأفضل للاستثمار في العالم، وهذا هو توجه ترامب الأساسي، حيث الرهان على مزيد من الانتعاش الاقتصادي والنمو القوي بما يضعف أي معارضة لمواقفه السياسية وتوجهاته حيال بعض القضايا العالمية.
استغل ترامب منصة "دافوس" أيضًا لإصلاح الخطأ الذي وقع فيه حينما وصف بعض الدول الأفريقية بـ "الحثالة" في اجتماع له مع ساسة أمريكيين، حيث تحدث إلى الرئيس الرواندي بول كاجاميه الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي طالبًا منه نقل "تحياته الحارة" إلى نظرائه الأفارقة، ومعتبرًا أن رئاسة الاتحاد الافريقي بمنزلة "شرف عظيم".
لم يخرج ترامب عن نص خطابه المكتوب بدقة كما ذكرت سالفًا، سوى عندما انتقد ماوصفه بالصحافة التي وصفها بأنها "كاذبة وشريرة". ومن الواضح أن ترامب قد سعى إلى استغلال منبر "دافوس" لتخفيف حدة مخاوف شركاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين من شعار "أمريكا أولًا، واعتقد أن تناوله لهذا الموضوع في دافوس بهذه الطريقة الهادئة والموضوعية ستعيد إليه كثير من الشركاء وترمم كثير مما هدمته الشكوك تجاه سياسة ترامب.
واعتقد أن جزء من هدوء خطاب ترامب في دافوس يعود إلى أنه يدرك أنه يخاطب رجال أعمال ومستثمرين ورؤساء شركات يمثلون الشريحة الأكبر من الحضور في المنتدى، وهو يريد اكتساب ثقتهم ويعرف، كرجل اعمال ناجح قبل أن يكون يكون رئيسًا، كيف يدغدغ مشاعر رجال المال والاقتصاد ويسيطر على عواطفهم، ولاسيما أن هؤلاء معجبون أساسًا بسياسات ترامب الاقتصادية، وأن الانتقادات التي تناله تنصب بالدرجة الأولى على مواقفه السياسية، لا الاقتصادية!
كان واضحًا من لقاءات ترامب مع رؤساء الشركات عابرة القارات أن هناك اعجاب بإصلاحات ترامب الضريبة وتاثيرها الإيجابي القوي في الاقتصاد الأمريكي، وهذا الأمر تحديدًا يعني أن ترامب يحقق للناخب الأمريكي مصالحه الخاصة من خلال انتعاش الاقتصاد، فالناخبين لا تهمهم السياسة الخارجية والقضايا الدولية بقدر ما يركزون على أثر سياسات سيد البيت الأبيض في حياتهم اليومية، وهذا ما يدركه ترامب جيدًا ويحاول الرهان عليه في ما تبقى من فترة رئاسته الأولى.
الخلاصة أن ترامب بدا في دافوس على غير عادته وقدم وجهًا جديدًا للعالم الذي اعتاد متابعة تغريداته وحروبه الكلامية مع خصومه في الداخل، والأرجح أن هذا الخطاب يعني ان ترامب قد اكتسب قدرًا واضحًا من الخبرة السياسية التي أهلته للاستماع لمستشاريه والالتزام بقراءة الخطاب الهادئ الرصين.