هل ستغادر تركيا حلف الأطلسي؟، تساؤل مهم بات مطروحا باهتمام انطلاقاً من تباعد المواقف والشقاق المستمر بين تركيا من ناحية وشركاء حلف الأطلسي، ولاسيما الولايات المتحدة، من ناحية أخرى.
الخلافات بين تركيا وبقية شركاء حلف الأطلسي لم تبدأ مع العملية العسكرية التركية المسماة "غصن الزيتون" ضد الاكراد في شمال سوريا، بل هي متراكمة خلال السنوات الأخيرة، وربما بلغت ذروتها مع هذه العملية، حيث بدا واضحاً وجود خلاف حاد في المواقف والمصالح بين واشنطن وأنقرة، حيث باتت تركيا أقرب إلى مواقف روسيا، المنافس التقليدي للحلف، والتهديد الأبرز لدوله، بحسب الأدبيات الصادرة عن هذه الدول.
الخلاف التركي الأمريكي مرشح للتصاعد، وربما انتقال الصدام من الساحة السياسية إلى الساحة العسكرية، في ظل وجود القوات الأمريكية في مدينة مينبج التي تضعها تركيا ضمن أهدافها في سوريا، ورغم استبعاد سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة بين الحليفين الأطلسيين، فإن الأمر لن يمر مرور الكرام على إدارة ترامب، التي تدرك عواقب التحدي التركي للدور الأمريكي في سوريا.
اصطدام السياستين التركية والأمريكية في تركيا يتمحور حول الملف الكردي بالأساس، ولكن ذلك لا ينفي أن هناك خلافات أخرى لا تقل أهمية، منها ما يتعلق بمجمل الرؤية الاستراتيجية لكلا الجانبين لمستقبل سوريا، فضلاً عن رؤيتهما للدورين الروسي والإيراني سواء في المرحلة الراهنة أو المقبلة.
ذورة الخلاف التركي الأمريكي بدأت مع إعلان واشنطن تشكيل قوة من 30 ألف مقاتل لا تخضع لنفوذ نظام الأسد في شمال سوريا، حيث استشعرت تركيا التهديد الناجم عن تشكيل هذه القوة من الفصائل الكردية المسلحة، ورفضت المبرر الأمريكي بشأن تشكيل هذه القوة، وأصرت على شن عملية عسكرية في الشمال السوري.
فرنسا من جانبها ألمحت إلى رفض فكرة الغزو التركي لسوريا، وعبرت عن موقف حاد تجاه تخطيط تركيا للسيطرة على أراض سورية.
التلميحات التركية للانسحاب من عباءة الأطلسي باتت تتردد في الإعلام التركي، وسلوكيات انقرة باتت تفصح عن ذلك علناً، حيث يرى كثير من المراقبين الأتراك أن خارطة التحالفات الاستراتيجية لم تعد تسمح ببقاء تركيا ضمن إطار الأطلسي.
الإشارة الأقوى من جانب تركيا بشأن مستقبل العلاقة مع الأطلسي، صدرت من خلال التعاقد على شراء منظومة صواريخ "إس 400" الروسية، في صفقة لم تأخذ حقها من التحليل والاهتمام لدلالاتها وأبعادها، إذ كيف يمكن لثاني قوة في حلف الأطلسي ان تتسلح بأسلحة روسية؟ ولكن الصفقة لم تكن بعيدة عن بيئة العلاقات الدولية في مساراتها الحالية، وتوازناتها القائمة، فهناك تعاون متنام بين روسيا وتركيا خلال السنوات الأخيرة، وهناك مصالح مشتركة باتت تربط بين الجانبين ربما بدرجة تفوق مصالح تركيا مع حلفائها الأطلسيين التقليديين، لاسيما بعد ما تعرضت له تركيا من اهانات متكررة سواء تمثلت في رفض عضويتها في الاتحاد الأوربي، أو في السخرية منها في تدريب ميداني لقوات حلف الأطلسي، حيث وضعت صورة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك واسم الرئيس رجب طيب أردوغان على "لوحة أهداف" أثناء تدريبات عسكرية للحلف أجريت بالنرويج.
مصطلح "الإهانة" بات يتكرر على ألسنة الساسة الأتراك في الرد على مواقف وتصريحات قادة دول أطلسية، وأحدثها تصريح مولود تشاووش وزير الخارجية التركي الذي اعتبر أن تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بشأن العملية التركية في منطقة عفرين شمال سوريا يمثل "إهانة" لتركيا، حيث حذر ماكرون تركيا من أن عملياتها ضد المسلّحين الأكراد في شمال سوريا يجب ألاّ تصبح ذريعة لغزو سوريا. وقد جاءت هذه التصريحات مباشرة عقب اقتراح ماكرون على تركيا بالدخول في شراكة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي كبديل عن الانضمام إلى التكتل. ورغم أن الاقتراح الفرنسي قد جاء عقب اجتماع جمع بين ماكرون والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورغم محاولة ماكرون التخفيف من وطأة دلالات الاقتراح بقوله "إن الهدف من هذا الاقتراح هو "الحفاظ على ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا، والعمل على جعل مستقبله مبنيا على التطلع إلى أوروبا ومع أوروبا"، فإن الرسالة واضحة إلى أنقرة أنه لا مكان لكم في أوروبا.
"الإهانة" لم تكن في الرفض القاطع المبطن لماكرون انضمام تركيا لأوروبا، بل في توصيف الموقف التركي الرسمي الذي بدا فيه الرئيس أردوغان في موقف لا يليق بدولة تدعي القوة والمكانة، أو تبحث عنهما، فقد قال أردوغان "لا يمكننا أن نتوسل بشكل دائم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي"!!.
سلسلة من الاهانات المتعاقبة لتركيا صدر بعضها من جانب الأطلسي والآخر من شركاء الأطلسي الأوروبيين، ولو اضفنا إلى ذلك أزمة الثقة المتفاقمة بين تركيا وشركاء الأطلسي في السنوات الأخيرة، والأزمة التي حدثت بين تركيا وألمانيا وسحب القوات الألمانية من قاعدة "انجرليك" التركية الأطلسية، فإن من البديهي أن تطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الطرفين، واحتمالات استمرار تركيا ضمن دول الحلف.
من الصعب التكهن بإمكانية انسحاب تركيا، فالأمر ليس بهذه السهولة، ولكنه يبقي إشكالياً أيضاً بالنسبة لدول أوروبا، لاسيما في ظل الشكوك المثارة حول مدى التزام إدارة ترامب بالدفاع عن شركائها الأطلسيين في أوروبا في حالات الخطر.
الأمر ليس بالسهولة التي يمكن تصورها، فهناك أبعاد اقتصادية مهمة للعلاقاتن وهناك هياكل استراتيجية للعلاقات، ومن الصعب أن تستيقظ تركيا لترى اسمها مدرجاً في قائمة أعداء حلف الأطلسي، شركاء الأمس!!