التساؤل عن نجاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هنا لا يتعلق بمهامه الرئاسية بشكل عام، ولكن بإدارة ملف الأزمة مع كوريا الشمالية، فالتقارير الإخبارية حملت مؤخراً أنباء على إعلان الرئيس كيم جونج أون وقف الاختبارات النووية والصاروخية، بحسب ما نقلت الصحف عن وسائل إعلام كورية شمالية لا تنطق سوى بما يشير به الزعيم!
ورد في هذه التقارير الإعلامية أيضاً أن الزعيم الكوري الشمالي قد أعلن عن إغلاق موقع للتجارب النووية.
الرئيس ترامب استقبل الأخبار بتغريدة قال فيها إنها "أخبار جيدة جداً"، وهي بالتأكيد كذلك، لأنها تمثل تطوراً في غاية الأهمية في واحدة من الأزمات التي كدت تؤدي إلى صراع كوني منذ أشهر قلائل مضت حين حبس العالم أنفاسه على وقع تهديدات متبادلة بين الرئيسين كيم وترامب، تباهي فيها كل منهما بما يمتلك من صواريخ عابرة للقارات وأسلحة مدمرة.
إعلان الزعيم الكوري الشمالي لا تقتصر أهميته على وقف التجارب النووية والصاروخية، التي قال إن بلاده لم تعد بحاجة إليها، ولكنه أعلن أيضا وبشكل رسمي أن كوريا الشمالية "استكملت بالفعل تسليح نفسها بالأسلحة النووية".
لم تهتم وسائل الاعلام العالمية بهذه الجزئية في تصريحات الزعيم الكوري الشمالي، ربما لأن الشكوك كانت تحيط بقدرات كوريا الشمالية منذ سنوات طويلة، وأن هناك تقارير مؤكدة تؤكد امتلاكها سلاحاً نووياً، ولكن اللافت في هذه التصريحات أنها تمثل إعترافاً رسمياً غير مسبوق بامتلاك السلاح النووي، ما يعني أننا امام عضو جديد غير رسمي في النادي النووي!
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل أسهم تأكد الولايات المتحدة من امتلاك كوريا الشمالية قدرات نووية في الإسراع بالتفاهم والحوار المباشر وغير المباشر؟ الإجابة هي نعم بالتأكيد، فمنذ الرسالة التي نقلتها كوريا الشمالية إلى الجانب الأمريكي عبر قنوات روسية خلال شهر أكتوبر الماضي، ومفادها أن كوريا الشمالية لن تتوانى عن استخدام السلاح النووي في أي صراع بين الدولتين، والأمور تتطور بشكل متسارع تلعب فيه هذه المعلومة دوراً مهماً، بل هي المحرك الأساسي له سواء على الجانب الأمريكي أو من جانب كوريا الجنوبية التي قامت بتنشيط وساطتها ولعبت دوراً في غاية الأهمية في اقناع الولايات المتحدة بضرورة الحوار مع كوريا الشمالية.
لعب إذن عنصر الردع في هذه المعادلة دوراً حيوياً، وأعاد السلاح النووي فرض هيبته كعامل ردع في توازنات القوى الدولية الكبرى، وهو درس لن يمر مرور الكرام على دول أخرى مثل إيران وغيرها، لاسيما أن الملالي يتابعون جيداً "الحالة الكورية الشمالية" ويستنسخون الكثير من تكتيكاتها في التعامل مع الولايات المتحدة.
ستعقد ـ على الأرجح ـ القمة المرتقبة بين الرئيسين ترامب وكيم، وسيكون فيها ما يمكن لكلاهما تسويقه لدى الداخل، فترامب سيكون لديه الفرصة للادعاء بتحقيق انتصار سياسي تاريخي واختراق غير مسبوق فشلت في تحقيقه إدارات أمريكية سابقة، وهذا صحيح ولكن المخفي هذا الأمر أن هذا الاختراق قد تحقق في ظل امتلاك كوريا الشمالية سلاحاً نووياً مؤكداً، اما الزعيم الكوري الشمالي فهو وإن كان لا يحتاج بالمرة إلى مبررات لتفسير قرار الحوار والتفاهم مع الولايات المتحدة بحكم طبيعة دولته ونظام حكمه، فإن وسائل إعلامه سيكون لديها أيضاً ما تفخر به في هذا الحوار، حيث توقفت تجاربها الصاروخية بعد الإعلان في شهر نوفمبر الماضي إنها نجحت في اختبار نوع جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قادرة على الوصول إلى كل أراضي الولايات المتحدة.
لقد وفر الزعيم الكوري الشمالي فرص نجاح لقمته مع ترامب قبل انعقادها بوقت كاف، والتقط الرسالة التي قال فيها ترامب إنه إذا تكن محادثاته المقررة مع زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ-أون مثمرة فإنه سينسحب منها، فرغم صغر سنه، لكنه يبدو على درجة كافية من الخبرة والنضج السياسي، حيث يدبو متفهماً لطبيعة الرئيس الأمريكي فأعطاه "صيداً ثميناً" يجعله حريصاً على عقد القمة، وما سيتلوها من تخفيف متوقع للحصار الدولي المفروض على كوريا الشمالية. الواضح أن زيارة مايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات المركزية السرية إلى بيونغيانغ، واجتماعه مع كيم، الذي وصفه بومبيو بأنه كان "اجتماع سلس جداً" وتأسيس ما وصفه بـ "علاقة جيدة" مع رجل كوريا الشمالية الغامض، قد لعب دوراً حيوياً في هذا التطور المفاجئ، الذي تنتظر بيونج يانج من ورائه ما وصفه ترامب ذاته بأنه "مسار براق".
هي مباراة دبلوماسية شيقة بالتأكيد، يتابعها العالم أجمع، وعلينا في المنطقة العربية ان نستخلص الدروس المستفادة منها، وفي مقدمتها أن توظيف الرادع الصاروخي والنووي في العلاقات الدولية سيغري إيران بتكرار التجربة، والسعي للافلات من عنق الزجاجة النووي والصاروخي وامتلاك قدرات تدفع الغرب للتعامل معها بندية، وهذا الدرس سيكون حاضراً لدى آخرين في مقدمتهم إسرائيل، التي لن تصبر على الأرجح حتى تنفذ إيران استراتيجيتها في امتلاك قدرات نووية وصاروخية تستكمل بها احلامها التوسعية.