هدأت قليلاً نبرة الحرب ضد الإرهاب سواء بسبب الانتصار العسكري على تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، أو بسبب نشوب صراعات إقليمية ودولية في سوريا لأسباب واعتبارات معقدة ومتشعبة.
انحسرت بموازاة ذلك أيضاً الجهود الدولية الرامية لملاحقة الإرهاب والتطرف على الصعيد الفكري والأيديولوجي، اعتقاداً من الكثيرين بأن هزيمة الإرهاب عسكرياً تعني بالتبعية نهايته فكرياً وأيديولوجياً رغم التحذيرات المتوالية من مختبرات الفكر والأبحاث بشأن خطر الفكر الإرهابي، وأن خطورة الأفكار لا تقل مطلقاً عن خطورة الممارسات الاجرامية البشعة لتنظيمات الإرهاب، وأن أخطر السيناريوهات التي تصب في مكافحة الإرهاب تتمثل في انشغال الدول بالصراعات وترك الإرهاب يتمدد أو يستعيد قوته ويعيد الانتشار في مجتمعات ودول أخرى، ومايفاقم هذا السيناريو أن هناك مناطق ودول كثيرة تعاني غياب الدولة بمفهومها التقليدي، حيث تحللت الدولة وتفككت وغابت تماماً عن الخارطة!
هناك براهين وأدلة كثيرة على أهمية معركة الأفكار، وأحدثها تلك العملية الاجرامية التي وقعت مؤخراً في إندونيسيا، حيث شنت عائلة من ستة أفراد بينهم طفلتان سلسلة اعتداءات انتحارية استهدفت كنائس خلال قداس الأحد، ما أسفر عن مقتل 13 شخصاً وإصابة العشرات، في عملية تبناها تنظيم "داعش"!
هذه الجريمة الإرهابية، الأكثر دموية منذ سنوات في إندونيسيا، تصب الزيت على نار الفتنة وتعكس تدابير الإرهاب في نشر التعصب والكراهية المتزايدة بين الديانات.
السلطات الإندونيسية أكدت أن العائلة المكونة من أم وأب وطفلتين بعمر 9 أعوام و12 عاماً وولدين بعمر 16 و18 عاماً مرتبطة بشبكة جماعة تسمي نفسها "أنصار الدولة" المؤيدة لداعش. وسواء صدقت التقارير الإعلامية التي تشير إلى أن العائلة عائدة من سوريا، أم لا، فإن الاعتداء بحد ذاته يعكس تأثير الأفكار وخطورتها في نشر الإرهاب، وأن هذا التنظيم الاجرامي بات يعتمد بشكل متزايد على ما يسمى بالذئاب المنفردة في تنفيذ عملياته الاجرامية.
الإرهابي المنتحر الذي تزعم هذه الخلية سيارته المفخخة إلى كنيسة، في حين ركب نجلاه دراجتين ناريتين إلى كنسية أخرى، حيث فجراً القنابل التي كانت بحوزتهما!
في مثل هذه الحالة غير المسبوقة يجب أن يناقش الخبراء والمتخصصون طبيعة تفكير هذه العناصر، وكيف يقدم شخص ما على ارتكاب تفجير انتحاري مستخدماً أطفاله وزوجته؟ وكيف تم حشو عقول الصغار بأفكار إرهابية دفعتهم إلى الموت انتحاراً من أجل فكرة لا يعرفون بالتأكيد أبعادها ولا يفهمون منها سوى أنها تنفيذ لطاعة الأب!
هذه الجريمة تدق أجراس الإنذار حول أنماط تفكير الإرهابيين الجدد، فهم ليسوا انعزاليين ولا يكتفون بالقيام باعتداءات فردية، كما كانت أجيال إرهابية سابقة، بل يشنون هجمات "عائلية" (إن صح التعبير) ويستخدمون أطفالهم في تفجير آخرين، وهذا عامل خطر إضافي يجب الانتباه له والحذر منه.
إن انتشار أفكار التطرف يجب ان يتوقف لأن التطرف هو المفرخة الحقيقية للإرهاب، ويجب الانتباه إلى أن التصدي للتطرف لا يكون مطلقاً عبر نشر اتجاهات مضادة له، بل بنشر الاعتدال وقبول الآخر والانفتاح وقيم التعايش بين المجتمعات المسلمة، والأقليات المسلمة في الغرب، لأن نشر قيم معاكسة للتطرف والتشدد تعد هدايا مجانية للمتطرفين والإرهابيين ويتخذونها ذريعة لتبرير جرائمهم وإقناع المتعاطفين معهم بصحة دوافعهم الاجرامية!
المجتمعات الإنسانية في مجملها إلى صيغ مشتركة للتعايش، والتطرف الديني ليس الخطر الوحيد على هذا التعايش، بل يتمثل الخطر أيضاً في مكافحة التطرف بتطرف مضاد، والأخطر من هذا هو الانزلاق نحو محاربة الدين والتدين نفسه، وليس بفك الاشتباك والفصل بين التدين والتطرف، وتسليط الضوء على الخيوط الرفيعة التي تفصل بين التدين من جهة، والتطرف والتعصب والكراهية والتحريض من جهة ثانية.
اعتداءات اندونيسيا الإرهابية تؤكد أن أمام العالم شوط زمني طويل من أجل استئصال شأفة التطرف والإرهاب، وأن هناك حاجة ملحة للتكاتف والتضامن الإنساني وتفادي الانزلاق إلى صراعات يتخذها الإرهاب ذريعة لاستعادة قوته.