أصبح قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها حقيقة واقعة بعد افتتاح السفارة رسميًا في حفل حظي باحتفاء خاص من قبل الإدارة الأمريكية التي شاركت فيه على مستوى عال بحضور ابنة الرئيس الأمريكي ايفانكا وزوجها جاريد كوشنر، والكلمة التي وجهها الرئيس ترامب أثناء الحفل عبر "الفيديو كونفرانس".
بهذه الخطوة، دخلت القضية الفلسطينية منعطف تاريخي جديد، يفصل بين ما قبل وما بعد نقل السفارة الأمريكية، ويكفي أن الولايات المتحدة لم تعد الوسيط القادر على التزام موقف محايد في القضية الفلسطينية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن بشكل قوي هو: لماذا فشل العرب والمسلمون في التأثير في قرار الإدارة الأمريكية سواء بسحب قرار الاعتراف بالقدس أو بتأجيل تنفيذه لحين التوصل إلى تسوية عادلة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي؟
الإجابة على هذا السؤال المعقد لا تحتاج إلى تبادل الاتهامات والتنصل من المسؤوليات بل بمناقشة الحقائق المجردة حتى وإن أغضبت البعض، وفي مقدمتها غياب الاستراتيجية الحقيقة والعمل الجماعي العربي والإسلامي الفاعل والمدروس في مواجهة القرار الأمريكي.
نعم غيّب الجميع، عربًا ومسلمين، التخطيط الاستراتيجي من فوق طاولة النقاش حول أسلوب التعامل مع موقف الولايات المتحدة، وانزلقت ردود الأفعال في معظمها إلى المزايدات والشعارات والهتافات، واكتفت بالمراوحة في المنطقة الكلامية التي يفضلها الكثيرون في منطقة الشرق الأوسط!
تناسى هؤلاء أن الزمن لم يعد زمن الشعارات ولا المزايدات وأن لكل زمن أدواته وأنماط تفكيره، لذا فقد كان لزامًا أن نتحدث مع العالم بلغة سياسية عقلانية مفهومة بعيدة عن العنف اللفظي والتشدد الذي لا يفيد سوى في نشر التطرف والإرهاب.
علينا أن نعترف أن القضية الفلسطينية تم اختطافها من جانب تنظيمات وعناصر ودول عدة تتاجر بها لأسباب سياسية كما في الحالة الإيرانية، التي ترفع شعارات الدفاع عن القدس والفلسطينيين في حين أن نظام الملالي لم يقدم للشعب الفلسطيني أي دعم يذكر، مكتفيًا بدعم تنظيمات موالية للملالي! والحال كذلك بالنسبة لتركيا التي يتخذ رئيسها القضية الفلسطينية مادة للتربح السياسي من دون أن يوظف الأوراق التي تمتلكها بلاده ضمن حسابات القوى الاستراتيجية، اقليميًا ودوليًا، في تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني، ولم نسمع أن الرئيس أردوغان وضد قرار الاعتراف بالقدس ضمن أولوية تحركاته على الصعيد الدولي عدا المؤتمر الذي عقده في إسطنبول لمخاطبة ناخبيه ودغدغة مشاعرهم بشعارات دعم القدس، ولم تنتج تلك القمة الطارئة سوى بعض اللقطات التذكارية للحضور.
مشكلة القدس أنها حوصرت بين عجزين، عجز العرب والمسلمين عن استعادتها بالقوة، وعجزهم عن استعادتها بالتفاوض، وإدمان الغالبية من المحسوبين أو من يزعمون أن القضية شاغلهم، للبيانات الكلامية النارية وصب اللعنات على الولايات المتحدة وإسرائيل من دون أي تفكير جاد يسهم في حلحلة الوضع المتأزم!
غاب الرد الدبلوماسي العربي والإسلامي الموحد على قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس، ولم تفلح مؤسسات العمل المشترك في بلورة موقف سياسي بنّاء قائم على استراتيجية واقعية واضحة للتعامل مع هذا المأزق، ولم نر سوى بيانات مغرقة في الوصف والشجب والاستنكار والادانة، فكانت النتيجة بديهية بمضي الإدارة الأمريكي في تنفيذ قرارها، وقد كنت، شخصيًا، على ثقة من ذلك لسبب بسيط أن البيت الأبيض لم يكن ليقدم على هذا القرار قبل دراسة الموقف وتقديره عواقب القرار جيدًا.
قد يقول قائل الآن: لا داعي للبكاء على اللبن المسكون، ماذا نحن فاعلون إزاء هذه الورطة، وهنا أقول أن نقل السفارة الأمريكية قد أحدث تأثيرًا وحلحلة لا يمكن إنكار عواقبها وتأثيرها السلبي العميق في مسار القضية الفلسطينية، ولكن هذا لا يعني الاستسلام للواقع، بل يجب العمل بشكل جاد ومكثف وفق استراتيجية واقعية ودقيقة وقائمة على أوراق الضغط العربية والفلسطينية رغم قلتها ومحدودية تأثيرها.
نقطة البداية يجب أن تكون من الكف عن المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وإعلاء مصلحة الشعب الفلسطيني، وإدراك الحقيقة القائلة بأن انقسام الفلسطينيين قد لعب الدور الأكبر في ما حدث لقضيتهم من خسارة فادحة، ومن ثم يجب ترميم البيت الفلسطيني من الداخل أولًا وتوحيد الصف والتحدث بلغة واحدة كي يمكن الحديث عن خطوة تالية تسعى لوقف نزيف الحقوق الفلسطينية المشروعة.