نتابع جميعاً موقف الثلاثي الأوروبي (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) حيال الاتفاق النووي مع إيران، حيث يدرك أي متخصص أن الموقف الأوروبي قائم بالأساس على حسابات مصالح ذاتية لا على حسابات الأمن والاستقرار العالمي.
هناك مصالح ضخمة لأوروبا مع إيران، ولذا تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى ايجاد آليات للحفاظ على مصالحها عقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وتسابق الزمن قبل حلول شهر نوفمبر المقبل موعد تطبيق العقوبات الأمريكية على الشركات التي تتعامل مع إيران اقتصادياً.
الحقيقة أن هناك اتفاقات وصفقات بالمليارات وقعتها شركات أوروبية عدة مع الجانب الإيراني، وهناك عشرات الآلاف من الوظائف التي باتت مهددة في دول أوروبية عدة بسبب الغاء محتمل لهذه الاتفاقات والصفقات.
لا خلاف على أن المصالح تمثل محركاً أساسياً للعلاقات الدولية، ولكن اللافت أن الموقف الأوروبي الراهن بشأن الاتفاق النووي مع إيران يضع المصالح قبل المبادىء، ويعلي حسابات الأرقام فوق حسابات معايير الأمن والاستقرار العالمي.
إيران لم تتغير والأغرب أنها لم تعد بالتغيير حتى تكافىء بالموقف الأوروبي الداعم لها في الجدل الدائر حول الاتفاق النووي، بل على العكس من ذلك، يصر النظام الايراني على رفض تقديم أي تنازلات ويهدد دوماً برفع معدلات تخصيب اليورانيوم في حال أخفقت أوروبا في الحفاظ على الاتفاق النووي.
القيم والمبادئ التي تروج لها أوروبا لا تتجزأ ولا يفترض ألاّ تتجزأ، وبالتالي فالحديث عن القيم والحريات وحقوق الانسان يبدو مستغرباً في ظل إصرار دول الاتحاد الأوروبي على دعم نظام لا يكل ولا يمل من تقويض الأمن والاستقرار ويعمل ليل نهار على نشر الفوضى والاضطرابات والقتل في محيطه الاقليمي، بل إن دول أوروبا أكثر تضرراً من الولايات المتحدة من ممارسات النظام الايراني، في ظل علاقات أوروبا التاريخية التقليدية التي تربطها بشعوب لبنان وسوريا، وهما الدولتان الأكثر تضرراً من نشر الميلشيات الايرانية في منطقة الشرق الأوسط.
بمنتهى الموضوعية، يبدو الحديث الأوروبي عن أهمية الاتفاق النووي في الحفاظ على السلام والاستقرار، مسألة عبثية، إذ يبدو وكأنه يتحدث عن عالم آخر لا نعرفه جميعاً، فأين هو السلام والأمن والاستقرار في ظل انتشار عشرات الآلاف من ميلشيات الحرس الثوري في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأين هو من تباهي إيران بحتلال أربعة عواصم عربية ثم محاولة احتلال العاصمة الخامسة؟..
ألا يبدو الحديث الايراني عن أهمية الاتفاق النووي مثار سخرية في ظل إصرار الملالي رفض أي محاولة لإلزام إيران بما يقتضيه القانون والتشريعات الدولية وإلزامها باحترام سيادة دول الجوار وعدم انتهاكها؟!
رأينا جميعاً المسؤولين الأوروبيين يهرولون نحو طهران لإنقاذ الصفقات والاتفاقات الاقتصادية عقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، ولم نرَ بالمقابل حرصاً أوروبياً على التنسيق والتفاهم مع الدول العربية التي تعد شريكاً اقتصادياً بالغ الأهمية بالنسبة لأوروبا! هل يعني هذا أن أوروبا تضمن مصالحها مع العرب وتثق في أنها لن تتأثر سلباً بموقفها حيال نظام يهدد كيانات دول عربية عدة بالابتلاع!..
وهل تعتقد أوروبا أن مصالحها مع إيران أكبر من مصالحها مع العرب، لا أعتقد ذلك ولا أظن أن أوروبا تعتقد ذلك، بل تسعى للفوز بكل شيء من دون تجمل مسؤولياتها وأعبائها في الحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين!..
لو تخيلنا لحظة واحدة أن أوروبا تضامنت مع موقف إدارة الرئيس ترامب بشأن الانسحاب من الاتفاق النووي لأدركنا بسهولة حجم الضغوط الاستراتيجية الهائلة التي ستقع على نظام الملالي، حيث كان سيجد نفسه في مواجهة خطر داهم بانهيار النظام نفسه ليس بسبب ضربات محتملة ولا تهديدات عسكرية، ولكن بسبب فشل النظام في إدارة موارد الشعب الايراني وانفاقها بدلاً من ذلك في التوسع والاغداق على ميلشيات ارهابية.
الشعب الايراني بات يدرك الحقيقة، وينتظر لحظة مناسبة للتخلص من كابوس الملالي، وكان على الدول الأوروبية التي تزعم الدفاع عن الحريات وحقوق الانسان، أن تسهم في منح هذا الشعب المغلوب على أمره فرصة الضغط على هذا النظام البائد إما لتغييره أو تعديل سلوكه، ولكن أوروبا آثرت مصالحها وتبنت نظرة استراتيجية قصيرة المدى ربما يدفع العالم كله ثمنها من أمنه واستقراره.