اعتاد الجميع تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي يهاجم فيها إسرائيل ويصفها بألفاظ عنيفة تعكس خطه السياسي الشعبوي، الذي يتسم بخصائص وسمات ناقشها الخبراء والمتخصصون كثيراً.
وقد لفت نظري في خضم التطورات الأخيرة التزامن العجيب بين تصريحات الرئيس أردوغان التي وصف فيها إسرائيل بأنها "الدولة الأكثر فاشية وعنصرية في العالم" وذلك في تعليقه على مصادقة الكنيسيت الإسرائيلي، على قانون "الدولة القومية" الذي يمنح اليهود فقط حق تقرير المصير في البلاد.
نحن، كعرب، نرفض هذا القانون ونعتبره بالفعل قانوناً عنصرياً بامتياز، ويكرس واقع الفصل العنصري في إسرائيل، التي تتباهى بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
هذا موقف عربي مؤكد لا مزايدة فيها ولا عنتريات، واحقاقاً للحق، فإن حديث الرئيس التركي عن إسرائيل أيضاً ينسجم مع مواقف كلامية له في مناسبات عديدة، رغم أنه زاد هذه المرة وربط بين هذا القانون العنصري وما وصفه بـ "روح هتلر"، حين قال "لا يوجد فرق بين هوس هتلر بتفوق العرق الآري وبين فهم إسرائيل بأن هذه الأرض العريقة يجب أن تكون مخصصة لليهود فقط، إن روح هتلر التي قادت العالم إلى كارثة كبيرة تعود لتتجسد لدى بعض القادة الإسرائيليين".
وبغض النظر عن دوافع إسرائيل لتأسيس وتكريس الواقع العنصر، وبعيداً عن الحرب الكلامية المتداولة بين الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأسبابها الحقيقة ومظاهرها التي تطفو على السطح إعلامياً، فإن ما لفت انتباهي في ذلك كله هو التزامن بين حدى تصريحات الرئيس التركي ونشر تقرير عن حصول شركة "ليماك" التركية على عقد لتصميم وبناء مبنى السفارة الأمريكية في مدينة القدس بكلفة 21 مليون دولار، ضمن تحالفها مع شركة أمريكية للمقاولات، تحالفت معها تحت اسم Desayild Limak ، وهو التحالف الذي فاز بعطاء بناء السفارة الأمريكية في القدس بعد أن قام ببناء السفارة الأمريكية في بغداد.
الخبر ليس عادياً لسبب بسيط هو أن شركة "ليماك" التي تعد من الشركات التركية الكبرى في مجالات الانشاءات، وتقوم ببناء مطار إسطنبول الجديد، يمتلكها ملياردير تركي يصنف بكونه صديقاً شخصياً مقرباً للرئيس أردوغان، فضلاً عن أن رئيس الوزراء التركي السابق الذي بات رئيساً للبرلمان التركي علي يلدريم أحد أعضاء مجلس إدارتها بحسب التقرير الاعلامي الأمريكي الذي نشر الخبر. ثم مالبث الاعلام التركي أن حاول نفي صحة الخبر، ولكن لم يصدر بيان رسمي من الشركة ينفي صحة التعاقد مع الخارجية الأمريكية على بناء السفارة في القدس.
محور حديثي لا يتعلق بنشاط شركة تعمل في البناء، ولكني اتحدث تحديداً عن الهوة الكبيرة التي تفصل بين المواقف الحقيقية على أرض الواقع والخطاب السياسي التركي ناري الطابع، ولاسيما حين صدر قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس!
غضب أردوغان عقب صدور قرار نقل السفارة ودعا إلى قمة إسلامية طارئة انتهت إلى بيان صارم حاول فيه الرئيس التركي رئيس الدورة الثالثة عشر لمنظمة التعاون الإسلامي "مل الفراغ" عبر حراك سياسي لا يسمن ولا يغني من جوع! ولكن الفعل الحقيقي جاء من صديقه المقرب الذي بادر إلى التعاقد لبناء السفارة الأمريكية في القدس بخبرات ومعدات تركية!
لست من دعاة التفتيش في النوايا، ولكني من المطالبين بالاتساق مع الذات ونبذ المتاجرة بمشاعر الشعوب العربية والإسلامية، التي تعاني ما يكفيها من متاعب جراء الفوضى والاضطرابات والأزمات التي تمر بالعديد من دول المنطقة منذ عام 2011. وبناء عليه لم يكن تلميح الرئيس أردوغان عن أمن القبلة الأولى (مكة المكرمة ظل التهديد الذي يواجه القبلة الثانية (القدس) سوى هذا النوع من الازدواجية السياسية والمصالحية والمتاجرة بالمشاعر الدينية، التي دفعت الكثير من الشعوب العربية والإسلامية أثماناً غالية لها في السنوات الأخيرة.