عاد الجدل خلال الأشهر الأخيرة حول الإساءة للأديان في بعض دول أوروبا، وذلك على خلفية دعوة السياسي الهولندي خيرت فيلدرز زعيم حزب الحريات الهولندي الذي يوصف بالمتطرف، خلال شهر يونيو الماضي عن تنظيم حزبه مسابقة رسوم كاريكاتورية موضوعها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ورصد لها مكافأة بلغت عشرة آلاف دولار، وهي المسابقة التي ذكرت تقارير صحفية أنها حصلت على موافقات رسمية قبل أن يتم الغائها بعد أن تقدم لها نحو مائتي رسام كاريكاتير!
هذه المسابقة الملغاة عكست العديد من الأمور المهمة أولها أن هناك "ثغرة" في الوعي الغربي تجاه فكرة التطرف، تتعلق باستبعاد أنماط تطرف لا تقل خطورة عن التطرف الذي تمارسه عناصر إرهابية محسوبة على الدين الإسلامي الحنيف، علماً بأن الحالتين متطابقتين وتتعلقان برفض وكراهية الآخر، فرفض الإرهابيين للآخر وارتكابهم الجرائم الدنيئة ضده، هي نفسها منطلقات وبواعث كراهية بعض المثقفين والسياسيين في الغرب للدين الإسلامي رغم تباين أشكال التعبير عن هذا الرفض سواء بالعنف والإرهاب كما تفعل تنظيمات الإرهاب التي تزعم الدفاع عن الإسلام والحديث باسمه، أو بتغذية مشاعر الكراهية والحقد وتأجيج المشاعر ضد الآخر كما يفعل البعض في الغرب ضد الدين الإسلامي وأتباعه.
لا اعتقد ان هناك مجال كبير للاختلاف والجدل بأن التعصب والتشدد والحقد والكراهية وضيق الأفق وغياب قيم التسامح وقبول الآخر تمثل في مجملها جذور التطرف والإرهاب لدى العناصر الإرهابية، ولا جدال أيضاً في أن التساهل مع انتشار هذه "الجذور" في الغرب يغذي أيضاً دعوات التحريض والصراع بين الأديان والحضارات.
الدساتير والقوانين الغربية في مجملها، فضلاً عن العهود الدولية الخاصة بالحريات المدنية والسياسية، تنص على ضرورة احترام الأديان وتجرم الإساءة إليها، ولكن هناك ممارسات تجافي هذه المبادئ تخرج إلى العلن تحت شعار حرية التعبير رغم أن جوهرها يعكس التعصب وكراهية الآخر بشكل لا خلاف عليه!
هناك خيط رفيع للغاية بين الحريات بشكل عام واحترام الأديان، والمسألة هنا في غاية الخطورة لأنها تمس مشاعر أكثر من مليار ونصف من المسلمين حول العالم، فضلاً عن مجافاة مثل هذه المسابقات لأي منطق سياسي أو فكري، لأن الساسة تحديداً يدركون مدى حاجة العالم للأمن والاستقرار وضرورة تحجيم عوامل الصراع والنزاع والتوتر في العلاقات بين الدول والشعوب، لاسيما ما يتعلق بنشر العنصرية والتطرف والإرهاب.
تنظيم مسابقات تستهدف رموز دينية ينطوي على أخطار بالغة كونها تمثل "هدايا" وذرائع مجانية لتنظيمات الإرهاب لنشر أفكارها المتطرفة ضد الدول والشعوب والديانات الأخرى، ومع ذلك نجد أن السياسي الهولندي المعروف بمواقفه وتصريحاته المعادية للإسلام والمسلمين يقول إن حرية التعبير أهم من أي شيء، بحسب تغريدات له على موقع "تويتر"، ولكنني اعتقد أنه تجاهل إضافة تكملة لتغريدته مفادها "طالما لم تضر أو تسئ لمشاعر الآخرين"، فأساس الحريات بشكل عام هو بناء مجتمعات تتمتع بالسلام والأمن الاجتماعي، وهذا الأمر يصعب تحقيقه في حال انتشار التعصب والكراهية بين أتباع مختلف الديانات، سواء في دولة واحدة أو على مستوى أوسع وأشمل.
واعتقد أن خطورتها بالنسبة لأمن الدول الأوروبية أكثر عمقاً لأن هذه الممارسات تضعف فكرة الولاء وتقوض أسس الاندماج الهوياتي للمسلمين من مواطني هذه الدول، كما توفر فرصاً لتنظيمات الإرهاب ومنظريه لاختراق عقول أبناء هذه الدول من المسلمين.
في ضوء ما سبق، قرأت باهتمام تصريحات الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين، مؤخراً، خلال لقائه السفير الهولندي في القاهرة، حيث أكد فضيلته إن حرية الرأي والتعبير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مبررًا للإساءة إلى الأديان والمعتقدات.
ولا شك أن الموقف الرسمي للدولة الهولندية يختلف عن مواقف بعض الساسة الذين يروجون لهكذا أفكار متطرفة، ولكن الإشكالية تنبع من أن الإرهاب يخلط بين ماهو رسمي وماهو غير ذلك، وينسب أي ممارسات سلبية للدول، ويستغل جهل البسطاء والعوام بتعقيدات السياسة ودروبها ويروج لأفكاره البغيضة ويسعى لاستقطاب مؤيدين ومتعاطفين جدد مع أفكاره من خلال ترويج أي فكرة معزولة في الدول والمجتمعات الغربية.
من المهم للغاية التصدي للتطرف والتعصب سواء في العالم الإسلامي أو في المجتمعات والدول الغربية باعتباره يمثل وقود الفكر الإرهابي، والمزود الأساسي لهذا الفكر سواء من خلال توفير مقومات انتشاره الفكرية، أو من خلال توفير ذرائع تسهم في قبول الفكر الإرهابي.