تسريبات وتصريحات عدة تتوالى منذ إعلان الرئيس ترامب سحب القوات الامريكية من سوريا، وأغلب هذه التسريبات والتصريحات تقترب من فكرة تراجع الرئيس الأمريكي عن قراره أو إعادة هيكلة خطط التنفيذ المزمعة وربما التنصل منها كليًا.
يستفيد الرئيس ترامب من ميزة مهمة استطاع أن يكرسها لدى جميع الدوائر السياسية والإعلامية منذ وصوله إلى الحكم، وهي صعوبة توقع خطواته وقراراته، فضلاَ عن التصرف بمرونة تجعل الثابت الوحيد في مواقفه هو التغير.
منذ أيام قال الرئيس ترامب، إن سوريا "ضاعت منذ زمن ولم يبق فيها سوى الرمال والموت"، وهذا الأمر يفسر على حد كبير رغبته في الانسحاب من هذا البلد العربي، ويؤكد أن هذه الرغبة تتملكه رغم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها للتراجع عن قراره لاسيما من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهذا ما يؤكده قوله "لا نتحدث عن ثروة طائلة، نحن نتحدث عن الرمال والموت، ولا أريد البقاء في سوريا إلى الأبد".
حتى الآن، لم يحدد الرئيس ترامب برنامجًا زمنيًا لانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، ولكنه بات يتحدث بشكل يوحي بأن الانسحاب ليس وشيكًا، حيث يؤكد ترامب أنه "لم يقرر عودة القوات بين ليلة وضحاها"مضيفًا "نعم سننسحب، ولكن ذلك سيتم خلال فترة من الزمن".
هذا التصريح الأخير ربما ينسف قدرًا كبيرًا من فكرة الانسحاب ذاتها، لاسيما أنه قال أن الولايات المتحدة قد شرعت في سحب قواتها "تدريجيًا"، وهو حديث مغاير لإعلانه يوم 19 ديسمبر انه قرر "سحب قواته فورًا"، وتأكيده أن "أبنائنا وبناتنا سيعودون وسيعودون فورًا".
الموقف بداياته كان واضحًا لا ليس فيه، حيث ذهب ترامب إلى سحب فوري للقوات، لدرجة أن وزير الدفاع جيمس ماتيس قدم استقالته احتجاجًا على هذا القرار، فهل استجاب ترامب لدعوات نتنياهو بالتريث في سحب القوات ليتم ذلك تدريجيًا؟
الأرجح ان الإجابة ستكون بنعم، لأن الرئيس ترامب الذي قدم الكثير من الدعم غير المسبوق لإسرائيل لا يمكن أن يغامر بضياع ذلك كله بسحب القوات بشكل سريع وترك إسرائيل في حالة من الخوف والقلق بسبب الوجود الإيراني المكثف في سوريا.
قد يقول قائل: هل يحمي الجنود الأمريكيين الذين لا يتجاوز عددهم ألفان تقريبًا إسرائيل رغم كل ما تمتلكه من عتاد وقوات وتطور عسكري؟ الإجابة أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لا يقاس بالعدد، فالولايات المتحدة قوة دولية عظمى، ودورها لا يقاس بحجم تواجدها العسكري على الأرض بل بقدرتها على التأثير وردع الخصوم، فالجنود الأمريكيين على قلتهم يمثلون عنصرًا استراتيجيًا فاعلًا في المعادلة السورية، ويتكسبون قوتهم من قوة بلادهم وقدرتها على الحسم العسكري السريع في حال نشوب أي أزمة هناك.
الإشارة الأهم فيما يتعلق بحقيقة نوايا الرئيس ترامب جاءت من تصريح على لسان السيناتور الجمهوري البارز لينزي غراهام، قال فيه إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعهد بالبقاء في سوريا لإنهاء مهمة "تدمير"تنظيم "داعش"، وجاء هذا التصريح بعد اجتماع دام لساعتين بين الرئيس ترامب والسيناتور غراهام، الذي أكد أن الرئيس يدرك الحاجة إلى إتمام المهمة، وأضاف "أعتقد أن الرئيس ملتزم بضمان أن يكون تنظيم الدولة الإسلامية قد هزم تماما عندما نغادر سوريا".
المسافة بين تصريح الرئيس ترامب في 19 ديسمبر، والذي قال فيه "لقد هزمنا تنظيم الدولة في سوريا"، وبين تصريح السيناتور غراهام الذي تحدث عن "الهزيمة التامة"لتنظيم "داعش"، هي التي ستكون فارقًا في بقاء القوات الأمريكية في سوريا.
الواضح أن ثمة عناصر باتت موضع تفكير جديد للرئيس ترامب منها حماية القوات الكردية (كان غراهام قد تحدث في وقت سابق قائلًا: إذا غادرنا تركيا الأكراد سيذبحون)، وضمان ألا تكون إيران الفائز الأكبر من انسحاب الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر تلميحات آن كنواي، المستشارة المقربة من ترامب، التي قالت فيها إن "الرئيس قد يعاود التفكير في خططه للانسحاب من سوريا".
البديل سيكون انسحابًا متدرجًا وربما بطيئًا للقوات الأمريكية من سوريا، بحيث يكون ترامب قد أوفى بتعهداته مع مراعاة مخاوف الجنرالات الأمريكيين وإسرائيل، وهذا ما أكده الرئيس ترامب ذاته حين قال في "تغريدة"جديدة أنه "سيعيد القوات إلى الوطن ببطء".
قرار الرئيس ترامب ثم التراجع عن عنصر "الاستعجال"وتنفيذ الانسحاب "ببطء"يمثل إرباكًا لجميع الأطراف في سوريا، بل يعتقد بعض المراقبين أنه كان بمنزلة "بالون اختبار"لجس نبض الجميع والتعرف على ردود الأفعال ثم التصرف بناء عليها، وهذا وارد، ولكن الأمر الأهم أن نوايا الأطراف ذات التأثير في سوريا (روسيا وإيران وتركيا) باتت مكشوفة أمام البيت الأبيض الآن، ومن ثم سيتصرف بناء عليها خلال المرحلة المقبلة.