لا شك أن أي بوادر توتر في العلاقات بين القطبين النوويين في الجنوب الآسيوي، الهند وباكستان، يمثل نذير خطر للعالم أجمع، خشية أن يؤدي ذلك إلى مواجهة نووية قد تسفر عن آلاف بل ملايين الضحايا، فالترسانات النووية للبلدين تضم نحو 300 رأس نووي، ويمتلكان من الصواريخ والمقاتلات ما يتيح لهما شن هجمات نووية متبادلة.
وقد جاء التوتر الأخير في علاقات البلدين كأول اختبار لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، لاعب الكريكيت السابق، الذي وعد ناخبيه بإحداث نقلة نوعية تنموية لابد من دون شك أن تمر عبر ترسيخ الاستقرار في ملف العلاقات مع الجار اللدود، الهند، كما وعد بالقضاء على التشدد والتطرف والفساد.
جاء أول اختبار لإرادة عمران خان بعد أشهر قلائل من توليه منصبه، حيث تسبب تفجير انتحاري في الجزء الخاضع لإدارة الهند من إقليم كشمير عن مقتل ما لا يقل عن 40 من أفراد الشرطة شبه النظامية، وهو تفجير تبنته جماعة "جيش محمد" المتشددة، التي تتمركز في باكستان، ما دفع نيودلهي إلى اتهام باكستان بالتواطؤ وتعهدت بعزلها دوليًا.
كان خان صريحًا ومباشرًا في حديثه أمام البرلمان الباكستاني حين قال إن "التوتر المتصاعد لا يخدم مصالحنا ولا مصالح الهند. تعرضت البلاد لأضرار كبيرة بسبب الحسابات الخاطئة. الحرب ليست حلا أبدا. في حال اتخذت الهند خطوة سنرد عليها"، وهو هنا بدا في لحظات الشدة والتوتر قائد كبير قارئ جيد لتاريخ علاقات البلدين، رابط الجأش، يريد السلام ولكنه لا يهاب الرد على أي تصرف خاطئ من الجانب الآخر، حيث أشار في كلمته إلى إسقاط مقاتلتين هنديتين اخترقتا المجال الجوي الباكستاني أن "الهدف الوحيد لذلك هو إظهار نيتنا وما يمكننا أن نفعله"، مؤكدًا أن بلاده تصرفت بشكل مسؤول ولم توقع ضحايا داخل الهند.
ولا شك أن خان وافق على الاستجابة العسكرية لجيشه قبل تنفيذها، وبالتالي هو يرى أنها تصرف مسؤول، ويلاحظ هنا أن الجيش الباكستاني أكد عدم رغبته في تصعيد التوتر مع الهند، وهناك تصريحات نسبت للجيش الباكستاني تتحدث عن شن مقاتلات باكستانية هجمات داخل الأراضي الهندية، ونسب إلى مسؤولين باكستانيين قولهم إن تلك الهجمات كانت ضد "أهداف غير عسكرية، وتجنبت الخسائر البشرية والأضرار الجانبية".
خان ليس سياسيًا مبتدئًا، فهو يخوض غمار السياسة منذ أكثر من 15 عامًا، ويبلغ من العمر نحو سبعة وستين عامًا، وهو الرئيس الحالي لحركة إنصاف الباكستانية، وكان عضوًا في الجمعية الوطنية لباكستان منذ عام 2013 إلى عام 2018، ويتمتع بشعبية كاسحة من خلال شهرته في العمل الخيري والسياسي معًا، ويمثل البديل عن الأحزاب والساسة التقليديين في البلاد. ورغم أن بعض التحليلات ترى أنه سيتعرض لاختبارات "جس النبض"سواء من الجار الهندي، أو من الولايات المتحدة، الحليف السابق لباكستان في الحرب ضد الإرهاب، خصوصًا أن خان لديه توجهات حادة تتعلق بإعادة رسم مسار العلاقات الباكستانية - الأمريكية.
قناعتي، أن خان سياسي من طراز جديد على السياسة الباكستانية، لذا فقد امتلك شجاعة الاعتراف بمحاول الاتصال بنظيره الهندي من دون جدوى، وهو يدرك تمامًا أن تصريحه في هذا الشأن سيسهم بشكل كبير في تهدئة نسبية لغضب الشعب الهندي، وقد قفز خان على الكلاسيكيات المعتادة في العلاقة بين القطبين، مبادرًا إلى امتلاك زمام المبادرة بشجاعة يحسد عليها، وتحسب له كسياسي يتصرف وفق مصالح شعبه ولا يخضع لحسابات الصقور، حيث أدرك أن المسألة قد وصلت لحد خطير بعد أن بلغ التوتر ذروته بين البلدين حين أعلنت إسلام آباد إسقاط مقاتلتين هنديتين في معركة جوية فوق الحدود، فيما ذكرت نيودلهي أنها أسقطت مقاتلة باكستانية وخسرت إحدى مقاتلاتها، وأسرت القوات الباكستانية طيارًا هنديًا نجا بعد إسقاط طائرته وتحطمها في الأراضي الباكستانية، وهو أمر لاشك أوقع رئيس الوزراء الهندي في خانة بحث خيارات الرد على باكستان، حتى لو تطلب الأمر المجازفة بصراع نووي محدود، لاسيما ان مودي يقدم نفسه لشعبه باعتباره الرجل القوى، فضلًا عن انه يستعد للترشح لولاية ثانية في انتخابات ستجرى خلال الأشهر المقبلة.
لم يلجأ خان إلى تبادل الاتهامات وتصعيد الخطاب السياسي، بل اتجه، كسياسي، إلى البحث عن مخرج من الأزمة، وسعى بسرعة إلى إيجاد وساطة بين البلدين لنزع فتيل التوتر المتفاقم، حيث يدرك خان أن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي سياسي يتمتع بشعبية هائلة، ويتعرض لضغوط كبيرة للرد على باكستان من جانب صقور "بهاراتيا جاناتا"، وهذا ربما يفسر عدم استجابته لمحاولات الاتصال المتكررة من جانب عمران خان، الذي امتلك الحكمة والشجاعة للاعتراف بأنه حاول إجراء هذا الاتصال عدة مرات ولكنه لم يفلح، ولم يكتف خان بالسعي للوساطة ومحاولة المبادرة بالاتصال بالجانب الهندي، بل بادر قبلها إلى التعهد بالإفراج عن طيار هندي أسقطت باكستان مقاتلته، وذلك لإظهار "حسن نية"باكستان تجاه الهند.
الأرجح أن الغضب الهندي تفاقم بعد أن نشرت وسائل إعلام باكستانية شريط فيديو يظهر فيه الطيار الهندي معصوب العينين بعد أسره عقب إسقاط طائرته، حيث وصفت الهند هذه الصور بأنها "عرض مبتذل لشخص مصاب".
خطورة هذه الأزمة أنها الأولى منذ عام 1971، التي تشن فيها هجمات جوية عبر خط المراقبة الفاصل بين البلدين، كما أن الاعتداء على قافلة الجيش الهندي قد راح ضحيته 40 جنديًا، وهو أكبر عدد من الضحايا العسكريين منذ بدء الصراع في كشمير قبل سبعة عقود.
خان رجل سياسة واقعي فاقتصاد بلاده يعاني رغم الاتفاقات والاستثمارات السخية التي حصل عليها مؤخرًا خلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فلم يبق من الاحتياطي الأجنبي الباكستاني سوى 8 مليارات دولار، لذا فقد حرص على الدفع باتجاه التهدئة فورًا واتخذ قرار الافراج عن الطيار بسرعة لافتة لامتصاص الغضب الهندي والتخفيف من الضغوط الشعبية الهائلة التي توقع أن نظيره الهندي قد وقع تحتها، ولكن بدا مدركًا لعواقب قراره حيث قال "رغبتنا في خفض التصعيد يجب ألا تفسر على أنها ضعف"من قبل رئيس الوزراء الهندي القومي ناريندرا مودي.
الحقيقة أن أي توتر في العلاقات الهندية ـ الباكستانية يجب أن يؤخذ عالميًا واقليميًا على محمل الجد، ولعلنا نلاحظ أن رئيس الوزراء الباكستاني قد بادر ترؤس اجتماع مع قادة الجيش بمن فيهم قادة قِطاع الأسلحة النوويّة، تحسبًا لأي هجوم هندي نووي مفاجئ بقنابل تكتيكية، لاسيما أن الهند لم تتجاوب مع الوساطات الإقليمية والدولية، وقالت خارجيتها "ليس هُناك حاجة للوسطاء، فلدينا قنوات التّواصل الفعّالة، والكرة الآن في ملعب باكستان للقيام بالخطوات المطلوبة ذات المصداقيّة ضِد الجماعات الإرهابيّة التي تعمل داخل أراضيها"، وهو مطلب يصعب على عمران خان التجاوب التام معه في ظل هذه الظروف المعقدة.