رغم أن بعض الأطراف الدولية المشاركة في مؤتمر برلين بشأن الوضع في ليبيا، ومنهم القائم بأعمال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أكدوا أن نتائج مؤتمر برلين "خطوة صغيرة"بسبب انعدام الثقة والخلافات العميقة التي لا تقتصر على طرفي الصراع في ليبيا بل تمتد لتشمل الأطراف الاقليمية والدولية، فإن من الموضوعي القول إن الاجتماع بحد ذاته كان مفيدًا في مجمله لأسباب عدة أولها أن أي جهد سياسي دولي يستهدف تسوية الأزمة الليبية يستحق الدعم والمساندة لتجنيب الشعب الليبي ويلات الحروب وسفك الدماء، ثانيها أن تعدد الأطراف المتداخلة والمعنية بالأزمة يجعل من الضروري مناقشة الأمر في إطار تشاركي دولي كما كان الحال في مؤتمر برلين لصعوبة إحداث توافق يسهم في تسوية الأزمة بمعزل عن مثل هذه الأطر النقاشية.
وقد تضمن البيان الختامي الصادر عن مؤتمر برلين نقاط عدة منها الاتفاق على ضرورة احترام حظر نقل السلاح إلى ليبيا وأن يتم مراقبة هذا الحظر بطريقة أكثر حزما مقارنًة بالماضي، والاتفاق على آلية تلزم جميع الأطراف بالامتثال لقرار الأمم المتحدة بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، ووقف تقديم أي دعم عسكري للأطراف المتصارعة في ليبيا، كما وافق المشاركون في المؤتمر على عدم التدخل في الشأن الداخلي الليبي واحترام وقف إطلاق النار والعودة للمسار السياسي، واتفقت الأطراف المشاركة (16 دولة ومنظمة) على بذل جهود دولية لتعزيز مراقبة حظر تصدير السلاح. وطالب البيان بتسريح ونزع سلاح الميليشيات وفرض عقوبات على الجهة التي تخرق الهدنة.
ورغم أن مؤتمر برلين قد انعقد بمشاركة 12 دولة هي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا وتركيا وإيطاليا ومصر والإمارات والجزائر والكونغو، و4 منظمات دولية وإقليمية هي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، مايوفر له القوة والتأثير اللازم لإحداث فارق نوعي باتجاه تسوية الأزمة الليبية، إلا أن إحدى إشكاليات هذه المؤتمرات في السنوات الأخيرة أن مقرراتها تبقى غير ملزمة في كثير من الأحيان جراء حالة الترهل والفوضى غير المسبوقة التي يعانيها النظام العالمي القائم، وقد شاهدنا في الأزمة ذاتها أن حكومة فايز السراج قد انتهكت اتفاق الصخيرات الذي بات حبرًا على ورق، بل وقامت باستدعاء قوة خارجية (تركيا) لها أطماع واضحة لكل ذي عيان في ليبيا، من أجل حماية هذه الحكومة والدفاع عنها رغمًا عن إرادة الشعب الليبي، كما أن اتفاقات دولية مماثلة بشأن أزمات أخرى في اليمن وسوريا وغيرهما لا تزال بعيدة عن التنفيذ أيضًا لضعف إرادة المجتمع الدولي في تنفيذها من ناحية، ولاستمرار التباين والخلاف في المصالح الاستراتيجية للأطراف الدولية المعنية بالأزمات من ناحية ثانية.
ورغم ايجابية ما ورد من نقاط توافق في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر برلين فإن الكثير من هذه البنود يحتاج إلى دور دولي أكثر فاعلية وتأثيرًا واستمرارية، ويثير بعضها تساؤلات مثل الموقف من القوات التركية الموجودة الآن في ليبيا، وهل يفترض سحبها فورًا بناء على الاتفاق على عدم التدخل في الشأن الليبي أم أن الاتفاق يقتصر على أي خطوات لاحقة وليست سابقة؟ وهناك أيضًا تساؤلات حول مراقبة تنفيذ بعض البنود مثل وقف إطلاق النار، فالتوافق لا يعني التنفيذ والالتزام في ظل وجود أطراف اقليمية تسابق الزمن لانتزاع مكاسب استراتيجية على الأرض مثلما يفعل الجانب التركي الذي أرسل آلاف العناصر المتطرفة إلى ساحة الصراع في ليبيا لمحاولة تغيير واقع الصراع وتعزيز موقف حكومة السراج في أي تفاوض محتمل! كما أن دعوة البيان الختامي لمجلس الأمن الدولي إلى فرض "عقوبات مناسبة على الذين يثبت انتهاكهم لإجراءات وقف إطلاق النار"، وضمان تطبيق تلك العقوبات لا يمثل إضافة نوعية حقيقية في ظل عدم الاتفاق على آلية دولية صارمة لمراقبة وقف إطلاق النار.
ورغم ضرورة توافر مساندة ودعم عربي قوي لمخرجات مؤتمر برلين ولأي جهد سياسي دولي يستهدف تسوية الأزمات في منطقتنا، فإن من اللافت أن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قد اعلنت أن الجنرال حفتر قائد الجيش الوطني الليبي وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق التي تسيطر على طرابلس "لم يكونا جزءا من المؤتمر"، ولم يتواجدا في قاعة المحادثات، واستقرا في مقرين مختلفين، لكنها لفتت في نفس الوقت إلى أن حضورهما إلى برلين أتاح إمكانية إطلاعهما على سير المشاورات بشكل مباشر، وأضافت أن "كلا منهما يتوقع من الآخر تطبيق الالتزامات"، وهذا يعني أن اختبار فاعلية ما تم الاتفاق عليه في برلين يبقى رهن توافر إرادة جماعية دولية لإقناع طرفي النزاع بالالتزام بما تم التوافق عليه في برلين، وهو أمر مشكوك في تحققه بدرجة ما لأن معظم هذه المقررات مجافية لإرادة تركيا على سبيل المثال، التي لن تلتزم حتمًا بوقف تدخلها العسكري المباشر وغير المباشر وانهاء دعمها لميلشيات حكومة السراج بالأسلحة والعتاد؛ لاسيما أن مؤتمر برلين لم يبحث إمكانية فرض عقوبات في حال انتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا، مايبقي التفاهمات من دون مخالب حقيقية، وهذا يعني بالتبعية أن "الخطة الشاملة"ـ كما وصفتها المستشارة ميركل ـ لتسوية الأزمة في ليبيا تبقى موضع اختبار خصوصًا فيما يتعلق بـموافقة حفتر والسراج على"تشكيل لجنة عسكرية لمراقبة الهدنة"تضم 5 ممثلين عن كلا الطرفين.
ثمة جزئية أخرى، حيث ذكرت المستشارة الالمانية في تصريحاتها: "اتفقنا على آلية تلزم جميع الأطراف بالامتثال لقرار الأمم المتحدة بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا"، ولكن عدم وضوح ماهية وطبيعة هذه الآلية يضع الجميع في موضع ترقب بانتظار الكشف عنها باعتبارها إحدى أهم المداخل الحيوية المؤثرة في وضع حد للصراع هناك.
ورغم ماسبق، فإن تحليل مقررات البيان الختامي الصادر عن مؤتمر برلين لا يعني مطلقًا عدم جدواه سياسيًا، فالعكس هو الصحيح تمامًا، والمؤتمر يمثل خطوة نوعية مهمة للغاية في مسار البحث عن تسوية تنهي الأزمة الليبية، كما ينطوي على أهمية استثنائية لنا كعرب، باعتبار أن مشاركة مصر والجزائر والإمارات في هذا المؤتمر يعني حضورًا عربيًا قويًا في الجهود الدولية لحل أزمة بلد عربي وتفادي كارثة غياب أو تغييب الدور العربي في الأزمة السورية.