قرأت مؤخرًا تقريرًا نشره موقع "روسيا اليوم" حول محتوى مقال لكاتب يدعي الكسندر سامسونوف تناول فيه خطوات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبناء مشروعه الامبراطوري ونجاحاته على حساب روسيا وغيرها. ويقول الكاتب في مقاله إنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، بدأت تركيا تدريجيًا في بناء سياسة عسكرية وسياسية واقتصادية جديدة في المناطق التي كانت في السابق جزءا من الإمبراطورية العثمانية، في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز. وهذه العملية ملحوظة بشكل خاص في ظل حكم رجب أردوغان.
واللافت في هذا المقال أنه تطرق إلى نقطة ربما لم يلتفت إليها الباحثون وهي بدايات خطة أردوغان الحالية تاريخيًا، والتي يرى الكاتب أنها بدأت منذ انهيار الحقبة السوفيتية، وتلك مسألة تستحق البحث والنقاش من الباحثين، باعتبار أن مجمل ما يدور حاليًا يدور حول تحولات شهدتها السنوات الأخيرة فقط من حكم أردوغان وتحديدًا منذ انهيار طموحاته الشخصية ورهانه على سيطرة تنظيم الاخوان المسلمين على الحكم في الدول العربية.
لست منحازًا هنا لرؤية الكاتب بشأن بدايات المشروع التركي، ولكنني أرى في طرحه وجاهة تستحق النقاش لأن المشروع التغلغي التركي الذي اكتسى في بداياته ولسنوات طويلة وجهًا ناعمًا تطبيقًا للرؤية الاستراتيجية التي صاغها وزير الخارجية السابق أحمد داود اوغلو، والمعروفة بسياسة "تصفير المشاكل"، والتي سبقها مايشبه الغزو التركي اعتمادًا على الدراما والفنون والثقافات للمحيط العربي والاسلامي.
هذه الرؤية لم تكن سوى ترجمة لفكر اوغلو الذي تناوله في كتابه "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" وهو كتاب لم ينل حقه من القراءة والاهتمام من النخب العربية، لكونه يكشف بوضوح تطلعات الجار التركي ونظرته للدول المحيطة، حيث أشار اوغلو في هذا الكتاب إلى أن دور تركيا لا يكمن في علاقتها مع القوى الغربية وحلف الناتو فقط، بل يمتد بشكل وثيق إلى الدول التي كانت تعد جزءًا من الدولة العثمانية حتى وقت قريب.
صحيح أن الكتاب لا يتناول صراحة عودة الدول التي كانت تشكل جزءًا من الامبراطورية العثمانية إلى تركيا ولكنه يتحدث عن أسس لاستعادة نفوذ تركيا في هذه الدول وكيفية جعلها دولة مركزية مهيمنة في مجالها الحيوي، وهذا الكتاب الذي لم يترجم للعربية سوى بعد نحو عشر سنوات من تأليفه هو باعتقادي الأساس الذي "هندس" أطماع أردوغان الاقليمية.
أوغلو أراد أن يستعيد الهيمنة بالقوة الناعمة وتصفير المشاكل، وكان يرى أن البيئة الدولية التي كشفت عنها نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق تمثل فرصة تاريخية لقيام نظام عالمي جديد، يمكن أن تلعب فيه تركيا دورًا دوليًا أقوى وتحتل مكانة أكبر. ويتنبه إلى أن قوة بلاده في الخارج تأتي بعد حل معضلاتها في الداخل، وأهمها أزمة الهويات المتصارعة وبناء اقتصاد قوي ومتماسك.
المعني أن أوغلو أراد إحياء الاحلام العثمانية بصبغة سياسية جديدة من خلال نموذج تركي جديد ولكن أروغان استغل فكرته ولم يسعفه صبره وميله للاستبداد والديكتاتورية في انتظار النتائج التي يمكن أن تأتي بها القوة الناعمة فلجأ إلى اقصاء المهندس (أوغلو) ونظريته وفكرته واستعان بالقوة الخشنة مباشرة لعلها تفلح في تسريع وتيرة تحقيق الأطماع، فهو لا يعترف بتبادل المصالح واعلاء مبدأ التعاون المشترك بديلًا للصراع والمخاصمة، بل يفضل الهيمنة ويحلم باعتلاء كرسي السلطنة من دون أن يدرى أن مايمكن أن يحققه بالتعاون لا يتحقق مطلقًا بالقوة والصراع وافتعال الأزمات وإشعال الحرائق وتصدير الارهاب.
يقول الكاتب الكسندر سامسونوف إن تركيا نفسها قد شهدت في ظل حكم أردوغان توجه واضح نحو أسلمة المجتمع، وأنه لايتصرف كرئيس منتخب ديمقراطيًا إنما كخليفة وسلطان، ويسعى لاقامة الاتحاد التركي من خلال توحيد الدول من حولها، أي اذربيجان وتركمانستان واوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان! والآن تدخلت تركيا في ليبيا سعيًا للسيطرة على المنطقة البحرية الليبية بما فيها من غاز من خلال حكومة السراج!
وهذه هي السياسة التي قالت صحيفة "فايننشال تايمز" إنها بدت واضحة في قمة الناتو التي عقدت بلندن احتفالًا بالذكرى السبعين لتأسيس الحلف، وتتلخص في أن تركيا تريد أن ينظر إليها كقوة عالمية ذات حكم ذاتي، أي قادرة على القيام بما تريد من دون تنسيق مع حلفاء ، حيث قال الرئيس أردوغان لأفراد الجالية التركية في لندن خلال زيارة بريطانيا للمشاركة في تلك القمة "اليوم، تستطيع تركيا أن تبدأ عملية عسكرية لحماية أمنها القومي دون طلب إذن من أي شخص"، وتقول صحيفة "فايننشال تايمز" إن الخطاب الذي ألقاه أردوغان كان نموذجا للسياسة الخارجية الحازمة، التي غالبا ما تكون أحادية الجانب، والتي اتبعها أردوغان في السنوات الأخيرة.
وترى أن رغبة تركيا في مد نفوذ أكبر لها في دول الجوار ليس أمرا جديدا، لكن سعيها الجريء نحو تحقيق ذلك هو الأمر الجديد، وينسب لدبلوماسي أوروبي قوله "يبدو أن تركيا تزداد عدوانية أكثر فأكثر". وبحسب "فايننشال تايمز"، فإن أنقرة كانت تأمل أن تساعد تدخلاتها في عقب أحداث عام 2011 في استعادة نفوذها في أجزاء من الإمبراطورية العثمانية السابقة، لكن المقامرة "فشلت"، إذ جاءت روسيا لإنقاذ نظام دمشق، وأطاح الشعب المصري بحكم الاخوان المسلمين.
تحولات السياسة التركية في عهد أردوغان باتت تأخذ نصيبًا أكبر من الدراسة والبحث والتحليل لأنها باتت تكتسي طابعًا عدوانيًا استعماريًا غير مألوف في العلاقات الدولية في الوقت الراهن، وهذا الأمر تسبب في إرباك كبير لعوامل ومقومات الأمن والاستقرار في المنطقة الشرق أوسطية.