الحقيقة أنه لا ينقص النظام العالمي القائم مزيد من الأنظمة التي تضرب بالشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي عرض الحائط، فهناك أنظمة عدة على رأسها النظام الإيراني، تتسبب إثارة الفوضى ونشر الاضطرابات بفعل ممارساتها المنافية للقانون والشرعية الدولية، وفي الفترة الأخيرة انضمت تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان إلى قائمة هذه الأنظمة والدول المثيرة للفوضى، فلم يكتف الرئيس إردوغان بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا، ولا باحتلال الشمال السوري ومحاولة قضم جزء آخر من أراضي هذا البلد العربي، بل بات ينازع الحكومة السورية على سيادتها الوطنية، حيث أمهلها مؤخرا حتى نهاية فبراير الحالي لسحب قواتها من محيط نقاط المراقبة التي أقامها الجيش التركي في شمال غرب سوريا!
هل يصدق عاقل أن ينذر جيش أجنبي قوات الدولة التي يحتل أجزاء من أراضيها بالانسحاب من ترابه الوطني؟ الأتراك غاضبون من تقدم الجيش السوري في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، التي هي بالمناسبة أرض سورية وليست تركية، ولا يكتفون بالغضب بل يدعمون تنظيما إرهابيا هو هيئة تحرير الشام أو ما يسمى بجبهة النصرة الموالية للقاعدة في سيطرته على منطقة إدلب!
الحقيقة أن الوجود العسكري التركي في سوريا غير شرعي بالمرة، ومن ثم فإن كل ما يترتب عليه يمثل خروجا على نطاق الشرعية الدولية، وإذا كان إردوغان يتذرع في تبرير تدخله في ليبيا بتنفيذ الاتفاق غير الشرعي الذي وقعه مع حكومة السراج، فبماذا يفسر تدخله في سوريا وتحديه للجيش السوري ومنازعته إياه السيادة على أجزاء من التراب الوطني السوري!
لا شك أن غطرسة إردوغان ستوقعه في شر أعماله بصدام محتمل مع القوات الروسية في سوريا، ولا سيما أنه لم يلتزم بتنفيذ بنود اتفاق سوتشي الموقع في سبتمبر عام 2018، بل سمح للعناصر الإرهابية بتهديد وجود القوات الروسية على الأراضي السورية، ظنا منه أن الروس لا يعرفون تشابكات العلاقة المشبوهة التي تربط إردوغان بتنظيمات الإرهاب في سوريا.
الحقيقة أن إردوغان الذي حاول ابتزاز الولايات المتحدة بورقة التحالف مع روسيا، يعيد المغامرة مجددا ولكن هذه المرة عبر محاولة ابتزاز الرئيس بوتين بورقة التعاون التركي مع أوكرانيا، من دون أن يدرك الفارق بين المغامرات الطائشة والحسابات الاستراتيجية المدروسة، ومن دون أن يدرك أن روسيا لن تفرط في الحليف السوري من أجل عيون إردوغان، الذي لعب في السنوات الأخيرة على كل التناقضات، وتقلب بين مواقف الحلفاء والأعداء بسرعة لافتة وبشكل يخلو من الحنكة ويجافي المصالح الاستراتيجية للدولة والشعب التركي.
في ليبيا يتمسك إردوغان باتفاق مع حكومة سقط عنها قناع الشرعية الدولية، بعد أن وضعت نفسها في حالة عداء مع الشعب والجيش الوطني الليبي، وفي سوريا يتحدث إردوغان عن اتفاق أضنة الموقع عام 1998 كغطاء لتبرير تواجد القوات التركية في سوريا، ويتجاهل أن هذه الاتفاق بينه وبين النظام السوري الذي يحاول إردوغان حرمانه السيادة على أراضي بلاده!
قناعتي أن إردوغان ارتكب خطأ استراتيجيا فادحا بزيارة أوكرانيا مؤخرا، وما حدث خلال هذه الزيارة يمثل استفزازا غير واقعي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما يضاعف الخطأ أن إردوغان أرسل آلاف العناصر الإرهابية المتشددة من سوريا إلى ليبيا، مما يعني أنه يعمل على تحويل هذا البلد العربي إلى منطقة تجمع ونقطة التقاء جديدة للإرهابيين من أجل تهديد والضغط على دول الجوار الليبي فضلا عن الدول الأوروبية، وابتزاز جميع الأطراف والمساومة على المصالح!
والإشكالية أن الرئيس التركي بات يتصرف بشكل لافت للانتباه من حيث معدلات مراعاته للمصالح الاستراتيجية التركية، فهو يدرك تماما حجم الخسائر الضخمة التي يمكن أن تقع على كاهل الاقتصاد التركي في حال انتهاء علاقة الغزل القوية التي تنامت مؤخرا بين أنقرة وموسكو على قاعدة مناكفة الغرب والولايات المتحدة تحديدا.
والمؤكد أن الرئيس بوتين لن يسمح لحليفه التركي المغامر بهدم ما نجحت روسيا في تحقيقه منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا، كما لن يغفر له زيارة أوكرانيا ومحاولة لي ذراع الكرملين بالحديث عن السيادة الأوكرانية على القرم، فروسيا التي خاضت حرب كسر عظام مع الغرب بسبب أوكرانيا لن تسمح لتركيا بابتزازها بالورقة نفسها.
ويوما بعد آخر، يتضح للجميع حجم الكارثة التي اندفع إليها إردوغان حين تخلى عن سياسة «تصفير المشاكل»، منتهجا سياسة قائمة على الاندفاع غير المحسوب، والتدخلات الخشنة غير المبررة، ليضع الاقتصاد التركي كله تحت ضغوط هائلة تنذر بضياع كل ما تحقق طيلة عقود وسنوات سابقة.