يدرك المتخصصون والباحثون أن أحد مصادر القوة والهيمنة الأمريكية على النظام العالمي القائم تتمثل في حالة الاعجاب والابهار والجاذبية الني يمثلها النموذج الأمريكي للكثير من الشعوب حول العالم في مجالات مختلفة، أكثرها يتركز في موارد القوة الناعمة الأمريكية، كالثقافة والفنون والاعلام، فضلاً عن السياسة وقوة النموذج السياسي الذي قامت عليه الولايات المتحدة منذ صياغة دستورها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، التي تعد أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم.
من المعروف أن الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة يعادل نحو 25% من إجمالي الناتج العالمي، والانفاق الدفاعي يكاد يتفوق على مجمل الانفاق الدفاعي الاجمالي في العالم، ولكن يبقى للنموذج السياسي تحديداً قوته ودوره المؤثر، ومن هنا فقد طرح البعض تساؤلات في الآونة الأخيرة حول مدى تأثر ركائز هذا النموذج بالانقسام الحاد الحاصل بين الديمقراطيين والجمهوريين بسبب سياسات الرئيس دونالد ترامب؛ ولاسيما بعد بروز هذا الانقسام بشكل غير مسبوق خلال القاء الرئيس الأمريكي خطابه السنوي حالة حالة الاتحاد، حيث رفض ترامب مصافحة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، زعيمة الديمقراطيين في المجلس، وتجاهل متعمداً اليد التي امتدت للترحيب "البروتوكولي" به في الكونجرس، ما دفعها للرد عبر تمزيق اوراق خطاب الرئيس بعد الانتهاء من القائه، مشيرة إلى أنه خطاب "ملىء بالأكاذيب"، ماعكس حجم الانقسام العميق بين قيادات الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة!
بطبيعة الحال، فإن الانقسام والخلاف وتبادل الاتهامات، وحتى الشتائم، بين القادة السياسيين في الأنظمة الديمقراطية الغربية مسألة تقليدية ولا غرابة فيها، ولكن هناك دائماً سقف للخلاف وآليات لإدارة هذه الخلافات والسيطرة عليها كي لا تؤثر في ديناميات النظام ولا تنتقل إلى الرأي العام، وتحدث فيه انقسامات تؤثر على الوحدة الوطنية وغير ذلك، بمعنى أن هناك تقاليد وقواعد لعبة متعارف عليها لا يمكن تجاوزها من جانب أي من الأطراف المتصارعة سياسياً، ولكن الخلاف هذه المرة بلغ مستويات غير مسبوقة، في ظل الطبيعة الاستثنائية للرئيس ترامب نفسه، فهو يدير خلافاته بشكل مغاير للمألوف والأمر هنا لا يقتصر على السياسة الداخلية، بل يطال السياسة الخارجية وعلاقات بلاده مع الحلفاء والخصوم الاستراتيجيين على حد سواء.
لست هنا من دعاة النموذج الامريكي ولا من المنبهرين بقوته وتفرده، كما هو حال آخرين، ولكني اتحدث من زاوية بحثية تتعلق بالتفاعلات السياسية التي تدور داخل هذا النظام ودلالاتها، كي لا يخطىء البعض فهم مايدور أو يسقط في فخ تحليل قائم على تصورات وأمنيات لا حقائق واقعية.
تفاصيل المشهد الخلافي الأمريكي لا تعني من وجهة نظري انهيار الأسس التي يقوم عليها النظام الديمقراطي هناك، كما ذهب البعض في مقالات نشرت في الآونة الأخيرة، لدرجة أن بعضهم شبّه الولايات المتحدة الأمريكية بجمهورية موز، ومن قائل أنها باتت مثل جمهوريات العالم الثالث، حيث الصراع خارج دائرة المألوف سياسياً، ولا ينبغي أن نستبعد أبداً قراءة تفاصيل المشهد والخروج منها باستنتاجات محددة، فتبادل المواقف الغاضبة بين الرئيس الأمريكي ورئيسة مجلس النواب لم تتطور إلى إجراءات تفسد الحياة السياسية الأمريكية، بل ظلت، رغم ماتنطوي عليه من دلالات، ضمن مربع الخلاف والصراع السياسي الذي يمكن وصفه بالحاد، سواء لأن الدستور الأمريكي يضمن توازنات القوى السياسية بين طرفي اللعبة، أو في إطار وجود مؤسسات عريقة راسخة قادرة على ضبط ايقاع الخلاف وإدارته والوصول به إلى بر الأمان، فالرئيس الأمريكي لا يستطيع ـ على سبيل المثال ـ إصدار قرار بحل مجلس النواب الأمريكي رداً على ما يمكن اعتباره اهانة شخصية من زعيمة المجلس لرئيس الدولة، ولا المجلس يمتلك سلطة عزل الرئيس منفرداً بل هناك إجراءات قانونية معقدة تتشارك فيه مؤسستي الكونجرس (مجلسي النواب والشيوخ) كما حدث في ملف محاكمة الرئيس ترامب على خلفية اتهامات اساءة استخدام السلطة ومحاولة اعاقة أداء الكونجرس لدوره السياسي.
ثمة جزئية مهمة أخرى تتعلق بالولاءات التي تضبط ايقاع السلوك السياسي للمتنافسين، فالبعض يرى أن خلاف ترامب ـ بيلوسي قد كشف عن غلبة الولاءات الحزبية على الولاءات الوطنية العليا، ويستدلون على ذلك بإفشال مجلس الشيوخ (ذي الاغلبية الجمهورية) مساعي مجلس النواب (ذي الاغلبية الديمقراطية) لعزل الرئيس ترامب، وهنا لا يمكن التسليم بصحة هذا الاستدلال بدليل أن مجلس الشيوه قد اقر بعد ذلك بأيام قلائل مشروع قانون أعده الديمقراطيون في مجلس النواب لتقييد سلطة الرئيس في شن حرب ضد إيران، وهذا الأمر تحديداً يعكس مدى تجذر المصالح الوطنية العليا في حسابات المشرع الامريكي، وإن كان ذلك لا ينفي بالمقابل أن إفشال محاولة عزل الرئيس قد تمت بدافع حزبي بحت لأنها تأسست من البداية على دافع حزبي وليس بناء على مصالح أمريكية عليا، ولا يجب أن ننسى أن الصراع بين ترامب والديمقراطيين هو صراع سياسي بالأساس، وبالتالي عندما تعلق الأمر بمسائل وطنية عليا مثل خوض حرب أو غير ذلك تراجعت الحسابات الحزبية وقام ثمانية من أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ بتصويت مرجح لمشروع القانون الديمقراطي.
الصراع السياسي الدائر في الولايات المتحدة لا يرتبطـ، برأيي، بالنموذج نفسه، بل يرتبط بطبيعة الأشخاص، فالرئيس ترامب يمثل حالة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي ويستخدم أدوات وسياسات غير مألوفة في إدارة العلاقة مع بقية الأطراف سواء في الداخل أو الخارج، وبالتالي فإن الأعراض التي تطفو على السطح لا علاقة لها بمدى صلاحية النظام السياسي وقوته بقدر ماترتبط بطبيعة الأشخاص، والأولى تكاد تكون ثابتة والثانية متغيرة، كما أن كلامي لا يعني أن النموذج الأمريكي لا يزال يحتفظ بكامل جاذبيته وإبهاره، فهناك ممارسات وسياسات قد نالت كثيراً من ركائز قوة هذا النموذج ولكن ليس من بينها خلاف ترامب ـ بيلوسي.