كل يوم نسمع عن أرقام وبيانات جديدة تشير إلى اتساع رقعة انتشار الإصابة بفيروس "كورونا" جغرافيًا؛ فضلًا عن تزايد لافت لحصيلة الوفيات الناجمة عن الإصابة بالفيروس في الصين، والتي تجاوزت ألفي حالة بحسب أحدث الإحصاءات الرسمية الصينية، مع ارتفاع إجمالي الاصابات المؤكدة إلى أكثر من 75 ألف حالة في مناطق مختلفة حول العالم.
والحقيقة أن انتشار الفيروس وحالة الذعر العالمي التي تسبب بها قد كشفت عن أمور كاشفة لما وصل إليه العالم من غياب للتعاون بين الدول في حالات الأزمات وإدارة الكوارث؛ حيث تعاملت جميع الدول مع هذا التهديد الصحي بشكل فردي في ظل غياب آليات واضحة وفاعلة لحشد طاقات العالم وإدارة الأزمة وفق معايير وضوابط دقيقة للحد من انتشار الفيروس من ناحية، ومحاولة تحجيم آثاره السلبية وتداعياته الاقتصادية على الكثير من دول العالم من ناحية ثانية، لاسيما بعد وجود مؤشرات تزايد الاصابات بشكل لافت في الفترة الأخيرة ببعض دول شرق آسيا المجاورة للصين، وإعلان حالة الطوارىء الصحية ببعض هذه الدول.
منظمة الصحة العالمية من ناحيتها أعربت على لسان مديرها تيدروس أدهانوم غيبريسوس، عن مخاوفه من ارتفاع عدد الاصابات وصعوبة السيطرة على انتشار الفيروس، وأن فرص هذه السيطرة "تتضاءل"، لاسيما بعد أن وفاة اربع حالات في إيران وإعلان مسؤولين رسميون هناك أن الفيروس ربما يكون قد انتشر في كل مدن البلاد.
المؤكد أن الاجراءات التي تتخذها الدول للحيلولة دون انتشار الفيروس أوانتقاله إليه تختلف من بلد لآخر بحسب عوامل ومعايير واعتبارات عديدة، ولكن الإشكالية تبقى في ضعف قدرات الوقاية والاكتشاف والرعاية الصحية في عشرات الدول حول العالم، علاوة على أن الخبراء يعربون عن مخاوف إزاء غموض آلية انتشار الفيروس في كثير من الحالات المصابة بدول العالم، فضلًا عن أن فترة حضانة الفيروس داخل جسم الإنسان لا تزال تمثل معضلة للسلطات الصحية، حيث تم التأكد من إصابة البعض بعد فحصهم بأيام والتأكد من خلوهم من المرض كما حدث في حالة ركاب السفينة السياحية "ذي دايموند برنسيس" احتجزوا في إطار إجراءات حجر صحي في يوكاهاما لأكثر من 14 يومًا على متن السفينة.
.الحقيقة أن العالم يواجه تحديات وتهديدات استراتيجية خطيرة على الصعيدين الصحي والبيئي (التغير المناخي) ولكن آليات التعاون الدولي في مواجهة هذه التحديات والتهديدات لا تزال غير فاعلة ولم ترتق بعد إلى مستوى الخطر، بل إن هناك غياب للتوافق الدولي حول وجود التهديد من أساسه كما في حالة الاحتباس الحراري وأسبابه وآثاره الخطيرة، ناهيك عن الخلافات الحاصلة حول استراتيجيات التعامل وتوزيع الأعباء والمسؤوليات بين دول العالم، ولاسيما الاقتصادات الكبرى التي يفترض أن تتحمل النصيب الأكثر من أعباء هذه الظاهرة.
يقول البعض أن أحد أسباب قصور التعاون الدولي في مواجهة التهديد الصحي العالمي الناجم عن فيروس "كورونا" ناجمة عن ضعف حلقات التواصل والتعاون بين الصين والقوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بل إن هناك من ينظر للأمر برمته من زاوية "المؤامرة" ويفسره انطلاقًا من هذه النظرية المتجذرة في الوعي الادراكي لدى بعض الثقافات والشعوب، ولكنني اعتقد أن التهديد لا يقتصر على الجانب الصحي، بل يطال الاقتصادات، بحكم تأثر حركة السفر والسياحة والتجارة من الصين تحديدًا وإليها، وربما كان كان من يرى في هذه الجزئية تحديدًا فرصة ثمينة لوقف الصعود المتسارع للصين عالميًا، لاسيما أنها باتت بحاجة إلى موارد ليست قليلة لاستعادة بريق صورتها الذهنية والتخلص من شبح الخوف والقلق الذي ارتبط بها في الآونة الأخيرة، والذي حاول البعض النفخ فيه وتغذيته وتوسيع دائرة انتشاره عالميًا لايقاع أكبر قدر من الخسائر بالاقتصاد الصيني جراء هذه الأزمة الصحية العابرة.
الوجه الآخر للصورة يشير في المقابل إلى أن أزمة "كورونا" قد ايقظت المارد الصيني على وقع تهديد لم يكن في الحسبان، ودفعته إلى إبراز امكانياته وقدراته الذاتية وتعظيم هذه القدرات والإمكانيات، واستنفار قدرات الشعب الصيني وتعزيز الوعي الصحي بين أكثر من مليار ونصف من سكان هذا البلد، فضلًا عن اكتساب خبرات هائلة في مجال إدارة الأزمات، والاستفادة من بيئة الأزمة في تعميق الولاء والانتماء الوطني والتخلص من القيادات المحلية المترهلة وتجديد شرايين سلطة الإدارة والحكم في الأقاليم الصينية كافة.
في جميع الأحوال، فإن مثل هذه الأزمات الطارئة تمثل اختبارات لقدرات الدول كافة في المجال الصحي، كما تسهم في تعزيز الخبرات في مجال بالغ الحيوية، وهو مجال إدارة الأزمات الصحية، التي باتت تمثل أحد مصادر التهديد الجديدة في القرن الحادي والعشرين.