جاءت استقالة ماورو فيراري رئيس مجلس البحوث العلمية في الاتحاد الأوروبي من منصبه الذي تولاه منذ ثلاثة أشهر فقط، لتسلط مزيد من الضوء إعلامياً على واحدة من أهم القضايا المثارة على هامس تداعيات أزمة تفشي فيروس "كورونا" عالمياً، وهي قضية مستقبل الاتحاد الأوروبي في ظل اخفاقه في بناء استراتيجية محكمة في مواجهة خطر الجائحة الت تهدد الكثير من دول الاتحاد.
قال ماورو فيراري في تبرير استقالته إنه فقد إيمانه بالنظام الأوروبي إثر عدم تمكنه من وضع برنامج خاص لمكافحة فيروس "كورونا"، والأرجح أن أصوله الايطالية قد فاقمت احساسه بالأزمة بالنظر لما حاق بالشعب الايطالي جراء تفشي الفيروس، لكن لا يمكن تجاهل أن فيراري كان يحلم باتحاد أوروبي مثالي تحطم على واقع مختلف تماماً كما قال في أحد تصريحاته الصحفية.
وبغض النظر عن مبررات الاستقالة، فإن الواقع يشير إلى معضلة حقيقية تواجه الاتحاد الأوروبي بسبب تأخره وتباطؤ ردة فعله إزاء مساعدة الدول الأوروبية التي تشهد تفشياً مأساوياً للفيروس، فلا يزال الاتحاد ـ حتى كتابة هذه السطور ـ يعمل على بناء اجماع حول استراتيجية لمواجهة الأزمة ومساعدة دوله الاكثر تضرراً، حيث تشير التقارير إلى خلافات بين الأعضاء حول حزمة إنقاذ اقتصادي تستهدف التعامل مع الركود والبطالة الناجمين عن الأزمة التي تحتاج إلى سنوات لتجاوز خسائرها بحسب تقديرات عدة.
في تفاصيل الواقع الأوروبي الصعب، تشير التقارير إلى دخول فرنسا مرحلة ركود لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، وانها تشهد انكماس اقتصادي بقدر بنحو 6%، ولهذا فإن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل اعتبرت أن أزمة فيروس كورونا المستجد تشكل أكبر اختبار للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه، بينما يقول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إن "تفشي فيروس كورونا يهدد الدعائم الأساسية للتكتل الاوروبي، وإن مشروع الاتحاد في خطر"، فيما حذر الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية جاك دولور من أن "المناخ الذي يبدو سائدا بين رؤساء الدول والحكومات وغياب التضامن الأوروبي يمثلان تهديدا قاتلا للاتحاد الأوروبي"، فيما قال رئيس البنك المركزي الهولندي كلاس نوت، "المنزل يحترق. يجب بذل جميع الجهود الآن لإخماد النار"، ولو أضفنا هذه التصريحات المهمة إلى مواقف أخرى صدرت من العاصمة الايطالية روما وغيرها سنجد أن سؤال مستقبل الاتحاد الأوروبي ومصيره لم يعد سراً ولم يقتصر على الأطر البحثية بل بات ضمن نقاشات الرسميين داخل الاتحاد ذاته.
أزمة "كورونا" جاءت لتصيب الاتحاد الأوروبي في مقتل وهو لا يزال يترنح إثر خروج بريطانيا، أحد أكبر دول الاتحاد بعد ألمانيا وفرنسا، حيث لا تزال عواقب خروجها تضرب قواعد الاقتصادات الأوروبية، وإذا اضفنا إلى ذلك أن فيروس "كورونا" قد ضرب اقتصادات الجنوب الأوروبي التي لا تزال تعاني تداعيات موجات الهجرة غير الشرعية فضلاً عن عدم تعافي هذه الاقتصادات تماماً من آثار أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، ليبرز من جديد التصدع القاتل في علاقات الشمال والجنوب الأوروبي، لدرجة أن رئيس الوزراء الايطالي جوزيبي كونتي الذي تعد بلاده الأكثر تضرراً في العالم من حيث أعداد الوفيات جراء الجائحة قد دعا الاتحاد الأوروبي إلى عدم ارتكاب "أخطاء مأساوية" قد "تفقده سبب وجوده".
أحد العقبات التي تقف وجه موافقة حكومات الشمال الأوروبي على التضامن القوي مع دول الجنوب الأوروبي تتمثل في خشية الساسة من أن يصب ذلك في مصلحة الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في دول مثل ألمانيا وهولندا، وهو مادفع وزير الخارجية والاقتصاد الألماني السابق زيغمار غابرييل، للتعبير عن خشيته من أن يرى "أوروبا تتفكك". قائلاً: "لم نكن مستعدين الآن لتقاسم ثروتنا لا أعلم ماذا سيحصل لأوروبا" والمهم أنه قال ذلك بعد رفض بلاده ودول الشمال الأوروبي مثل هولندا مناشدة تسع دول أعضاء بالاتحاد تضررواً من الجائحة من أجل الاقتراض الجماعي من خلال مايعرف بـ "سندات كورونا" للتخفيف من التداعيات الاقتصادية للأزمة.
في محاولة قياس الأثر المحتمل للعاصفة التي تضرب الاتحاد الأوروبي، يقول بعض الباحثين أن الأزمة لن تهدم بالضرورة الاتحاد الأوروبي ولكنها قد تضعفه وربما تسفر عن تعديلات على الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد، لاسيما أن القوتين الرئيسيتين الآن بالاتحاد ـ فرنسا وألمانيا ـ تمتلكان رؤيتان مختلفتان لتقديم المساعدات للدول الأعضاء المتضررة من الأزمة، ولكنهما أيضاً لن تدفعا باتجاه انهيار الاتحاد وتفككه او الانسحاب منه، ولكن الإشكالية أن الاتحاد الأوروبي بكامله قد يفقد سبب وجوده بنظر مواطنيه كما قال رئيس الوزراء الايطالي، وقد يدفع ذلك إلى تعالي الأصوات الداعية للخروج من عباءة أوروبا الموحدة.
الاتحاد الأوروبي خيب آمال مواطني ايطاليا، إحدى الدول المؤسسة له، في لحظة تاريخية بالغة الحرج، خصوصاً أن القارة العجوز قد تحولت إلى بؤرة انتشار للفيروس القاتل، ويغامر بانهيار الفكرة الأوروبية ومكاسب نحو سبعة عقود من العمل المشترك، وكان مشهداً لافتاً لوسائل الاعلام أن يلوح بعض المواطنين الايطاليين بأعلام روسيا والصين بدلاً من أعلام الاتحاد الأوروبي!
ورغم أن ازمة "كورونا" ستعيد تشكيل عالمنا كما اعترف الاتحاد الأوروبي ذاته، فإن من الصعب القفز إلى نتائج تتعلق بانهيار الحلم الأوروبي، فالاتحاد لا يزال يمتلك آليات فاعلة لتجاوز الخلافات والصعوبات، ولكن التباطؤ في مساعدة ايطاليا واسبانيا في مواجهة جائحة "كورونا" سيترك زلزالاً كبيراً وندوباً عميقة داخل جسد الاتحاد، خصوصاً أن الأحزاب اليمينية ستنتهز الفرصة للطعن في جدوى عضوية الاتحاد، ويساعدها في ذلك أن المساعدات لإيطاليا قد جاءت من دول خارج الاتحاد مثل روسيا والصين وكوبا، حتى أن مؤيدي أوروبا الموحدة الأسبان و الايطاليين باتوا غير قادرين على الدفاع عن فكرة بقاء الاتحاد.