من أشد الاتهامات الموجهة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خلفية إدارة أزمة مقتل جورج فلويد، تلك التي جاءت على لسان حليفه السابق جيمس ماتيس وزير الدفاع الأسبق، الذي استقال من منصبه احتجاجاً على انسحاب قوات بلاده من سوريا، والتي اتهم فيها الريس ترامب بالسعي إلى "تقسيم" الولايات المتّحدة، وقال ماتيس في تصريح نشرته مجلة "ذي اتلانتيك": (إن دونالد ترامب هو أول رئيس في حياتي لا يحاول توحيد الأمريكيين، بل إنه حتى لا يدعي بأنه يحاول فعل شىء.. بدلاً من ذلك هو يحاول تقسيمنا) وأهمية
هذا الاتهام أنه يأتي من جنرال لديه رصيد كبير من الشعبية والاحترام على المستوى الرسمي والحزبي، فضلاً عن أنه كان يرفض في السابق توجيه انتقادات لترامب لأنه يرى أنه من غير المناسب انتقاد رئيس أثناء فترة ولايته وأنه يفضل تقييم هذه الفترة بعد انتهائه.
قال ماتيس، الذي اشتهر بلقب "الكلب المجنون" أو "المسعور" إن ماحدث في مقتل جورج فلويد هو نتيجة ثلاث سنوات من دون قيادة كفؤة وناضجة للولايات المتحدة، داعياً إلى التوحد من دون هذه القيادة اعتماداً على ما أسماه بنقاط القوة الكامنة في المجتمع المدني الأمريكي. اللافت أن الرئيس ترامب لم يعقب على هذه الاتهامات ولم يفندّها بل بادر بالتفاخر بطرد الجنرال ماتيس من منصبه واقالته، وقال "ربما كان الشىء الوحيد المشترك بين باراك أوباما وأنا هو أنه كان لكلينا شرف طرد جيم ماتيس الجنرال الأكثر مبالغة في العالم" وهي إشارة ذكية من ترامب لموقف سلفه الديمقراطي الرئيس السابق اوباما تجاه الجنرال ماتيس، بمعنى أن ترامب يريد أن يقول أن وزير دفاعه السابق لم يحظ بثقة رئيسين ديمقراطي وجمهوري فكيف تصدقونه!
ولكن وسائل الاعلام الأمريكية حاولت بشدة تذكير الجمهور بإطراء ترامب للجنرال ماتيس أثناء ترشيحه لتولي منصب وزير الدفاع في أول تجمع بعد فوز ترامب الانتخابات في نوفمبر 2016، حيث قال عنه وقتذاك أمام حشد كبير من انصاره في اوهايو "سنعين (الكلب المجنون) ماتيس وزيرا لدفاعنا". وأضاف "إنه الأفضل. هم (يقصد الجنرالات الآخرون) يقولون إنه الأقرب إلى الجنرال جورج باتون" في إشارة إلى القائد العسكري الذي برز خلال الحرب العالمية الثانية، ومعروف أن ماتيس كان أول جنرال متقاعد يشغل منصب وزير الدفاع منذ جورج مارشال في 1950 الذي خدم في إدارة الرئيس هاري ترومان، فضلاً عن أنه حاز من أجل تعيينه على استثناء خاص من قانون يحظر على أي جنرالات متقاعدين تولي منصب وزارة الدفاع لمدة سبع سنوات بعد تقاعدهم، وهو الاستثناء الذي حصل عليه قبله أيضاً الجنرال مارشال في عام 1950.
وكان ماتيس قد بعث برسالة في ديسمبر 2018 للرئيس ترامب قال فيها "إن "نظرته إلى العالم التي تميل إلى التحالفات التقليدية والتصدي للجهات الخبيثة تتعارض مع وجهات نظر الرئيس".وأضاف ماتيس "لأنه من حقك أن يكون لديك وزير دفاع وجهات نظره تتوافق بشكل أفضل مع وجهات نظرك حول هذه القضايا وغيرها، أعتقد أنه من الصواب بالنسبة إلي أن أتنحى عن منصبي". وقبيل نشر" البنتاغون" لرسالة الجنرال ماتيس، نشر ترامب "تغريدة" أعلن فيها أن وزير دفاعه سيتقاعد، واقر وقتذاك بأنه "خلال مدة خدمة جيمس تم تحقيق تقدم رائع، خاصة بالنسبة إلى شراء معدات قتالية جديدة".وأضاف "الجنرال ماتيس ساعدني كثيرا في جعل حلفاء ودول أخرى يدفعون حصصهم المتوجبة عليها عسكرياً"، والاستقالة نفسها لم تكن مفاجأة لمتابعي الشأن الأمريكي في ضوء اتساع مساحات التباين في وجهات النظر بين ترامب وماتيس.
الواقع أن اتهامات ماتيس وشعوره "بالصدمة" جراء ماوصفه بفشل الرئيس ترامب في إدارة أزمة مقتل جورج فلويد، تكتسب صدقية أكثر من حديث البيت الابيض عن وزير الدفاع السابق لأن الرئيس ترامب قد وقع حتى في ورطة مع وزير دفاعه الحالي بسبب تهديد الرئيس باستدعاء الجيش لمواجهة المتظاهرين، وهو ما رد عليه الوزير مارك أسبر أحد اقرب حلفاء ترامب في الإدارة الحالية بأنه يعارض توجه ترامب لاستدعاء الجيش لمواجهة أعمال العنف، نافياً علمه بالكثير من قرارات ترامب بخصوص الأزمة، ما يعني ضمناً تنصله من المسؤولية عن تلك القرارات باعتباره أحد أركان الإدارة، ما اضطر الرئيس للتراجع عن تهديده قائلاً إنه "لا أعتقد أننا سنضطر لاستدعاء الجيش".
ورغم أن ترامب كان يستند في تهديده إلى قانون أمريكي قديم يسمى "قانون التمرد" يمنح الرئيس حق اعطاء الاوامر بنشر القوات الفيدرالية لتطبيق القانون بغض النظر عن موافقة حكام الولايات في حال اعتبر الرئيس أن الأمور تخرج عن السيطرة الأمنية في ولاية من الولايات، أو أن هناك انتهاكات لحقوق المواطنين الدستورية بسبب العنف او الفوضى والاضطرابات الداخلية، وهو قانون لجأ إليه الرئيس الأسبق جورج بوش الأب للتصدي لأعمال الشغب العرقية في لوس انجلوس عام 1992، فضلاً عن تعدد استخدام هذا القانون في حقب سابقة لحماية الحقوق المدنية للأمريكيين، فإن الرئيس ترامب قد خشى فيما يبدو انقسام إدارته في ظل معارضة وزير الدفاع الحالي لموقف الرئيس بشأن استخدام قوات الجيش، ما يعكس قلق ترامب واهتزاز موقفه مقارنة بفترات سابقة في ولايته الرئاسية، التي تشهد أزمات متلاحقة في أشهرها الأخيرة.
ربما لا تكون انتقادات ماتيس سبباً مباشراً في إضعاف حملة ترامب للفوز بولاية رئاسية ثانية، ولكنها بالتأكيد تضاف إلى جملة من الأزمات والعراقيل التي تواجه الرئيس لتجديد فترة بقائه في البيت الأبيض لسنوات أربع قادمة.