هناك مراوحة وتذبذب في مستوى فاعلية الدور الأوروبي في أزمات الشرق الأوسط بشكل عام، بين صعود وهبوط، ونشاط وجمود، ففي الأزمة السورية على سبيل المثال، نلحظ غيابًا تامًا للصوت والدور الأوروبي، عدا الجهود التي تبذل لإثناء السلطان التركي رجب طيب أردوغان عن تهديداته وابتزازه المستمر للحصول على المزيد من أموال الأوروبيين مقابل القيام بدور حارس الحدود لمنع تدفقات اللاجئين السوريين إلى شواطئ الاتحاد الأوروبي!.
وفي الأزمة الليبية، هناك دور أوروبي واضح لايمكن إنكاره بحكم الأهمية الجيواستراتيجية لليبيا، ولاسيما الخوف من موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية عبر السواحل الليبية، حيث برز الدور الأوروبي من خلال مؤتمر برلين الذي عقد في يناير الماضي، وانتهى إلى صيغة لم تجد طريقها إلى النور ومخرجات لم يرافقها آليات تنفيذية جادة تضمن فاعلية ما توافق عليه الحاضرون، وتعكس جدية المجتمع الدولي في التوصل إلى تسوية لهذه الأزمة بعد تطبيق بنود حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا ومراقبة ذلك الحظر المفترض، وبالتالي لم تنتقل تلك الجهود إلى المرحلة التالية الخاصة بإجراء محادثات داخلية ليبية حول القضايا الخلافية، فكانت النتيجة أن واصل السلطان التركي أردوغان تدخلاته العسكرية حتى بلغت حد التدخل المباشر لدعم حكومة السراج في مواجهة الجيش الوطني الليبي، وبالتالي استمرار الأزمة وتفاقم الصراع رغم أن الدول الرئيسية المعنية بالنزاع الليبي، ومنها تركيا، قد تعهدت في برلين بالتزام حظر إرسال الأسلحة إلى ليبيا وعدم التدخل في شؤونها، وانتهى إلى أن المؤتمر كان بمنزلة "خطوة صغيرة" بالفعل كما قالت المستشارة الالكانية انجيلا ميركل في تعقيبها الواقعي على نتائجه وقتذاك، حيث اخفق المؤتمر في العثور على "المفتاح"الذي يمكن من خلاله حل الأزمة الليبية كما قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في أعقاب اختتام المؤتمر يوم التاسع عشر من يناير الماضي، وهذا الأمر لا ينفي أن الدبلوماسية الالمانية كانت تدرك مدى تعقيد الازمة حيث اعتبر الوزير الألماني أن "العمل الحقيقي قد بدأ الآن بعد المؤتمر".
كما برز الدور الأوروبي مؤخرًا من خلال إعلان الرئيس ماكرون مؤخرًا أن الرئيس أردوغان يمارس في ليبيا "لعبة خطرة لا يمكن التسامح معها"متهما تركيا بمخالفة "جميع الالتزامات التي حملتها على عاتقها في مؤتمر برلين"، وأقر الرئيس ماكرون بأن الدور التركي في الصراع يهدد مصالح ليبيا، ودول الجوار، والمنطقة بأكملها، وأوروبا أيضا، وقال ماكرون: "لا أريد الانتظار لستة أشهر، أو عام، أو عامين حتى أرى ليبيا في نفس الموقف الذي تعيشه سوريا اليوم"، وهي إشارة مهمة لرغبة ماكرون في بناء تحرك فاعل وجاد، يدعمه في ذلك البرلمان الفرنسي الذي قال نائب رئيسه أن أردوغان "يقود الحرب في ليبيا إلى الجنون"، وأكد أن "مأساة ليبيا تتجاوز حدودها، والوضع قد يخرج عن السيطرة"، ما يعكس أيضًا حجم القلق الفرنسي من احتمالية تسبب التدخل التركي في اتساع دائرة الصراع في حال حدث تدخل مصري عسكري مباشر للحفاظ على الأمن القومي المصري، ولكن لا يزال الغضب والقلق الفرنسي بحاجة إلى دعم دولي أكبر للضغط على تركيا لوقف تدخلاتها في ليبيا وتهيئة المجال لايجاد تسوية سياسية.
هناك أيضًا أزمة سد النهضة الاثيوبي، التي يبدو الصوت الأوروبي فيها مترددًا ولا يناسب الثقل الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي ومصالحه مع أطراف هذا النزاع، بينما برز دور الولايات المتحدة على استحياء في صورة وساطة لم تفلح في تحقيق نتائجها، ولم يظهر في الأفق أي دور صيني أو روسي حتى الآن، رغم الاهتمام الصيني المتنامي بالقارة الافريقية، ورغم أن الصين هي أكبر شريك تجاري لإثيوبيا، إذ تشير التقديرات أيضًا إلى أنها قدمت أكثر من 16 مليار دولار من القروض للدولة الواقعة في القرن الأفريقي، بما في ذلك ائتمان بقيمة 1.2 مليار دولار لبناء خطوط النقل التي ستصل بالمشروع، فضلًا عن وجود علاقة غير مباشرة للصين بالمشروع من زاوية أنه يولد كهرباء لتشغيل خط سكة حديد ممول من الصين يربط إثيوبيا، الدولة غير الساحلية، بالموانئ في جيبوتي المجاورة.
سعت أوروبا في أزمة سد النهضة من خلال رسالة بعثت بها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لين، ورئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميشيل، إلى رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد، عرضا فيها دعمهما للمحادثات بين الدول الثلاث، كما شدد الاتحاد الأوروبي في بيان رسمي على أن "حل الخلاف مهم للاستقرار في كل المنطقة"، واشار البيان الى أن الاتحاد الأوروبي قد تواصل مع كل الأطراف وشجعها على "تجنب الاستقطاب المتزايد". وبالتالي تبدو الجهود الأوروبية المبذولة في أزمة "سد النهضة"حذرة وضعيفة حتى الآن، لاسيما بعد فشل الوسيط الأمريكي في اقناع الجانب الأثيوبي بالتوقيع على التفاهمات التي تم التوصل إليها بمشاركة الأطراف الثلاثة للأزمة، علاوة على أن الاتحاد الأوروبي نفسه قد فشل في عام 2014 في مساعدة الأطراف للتوصل إلى حل، ولكن التبعات السلبية المتوقعة في حال تفاقم التوتر يجب أن تشجع الاتحاد الأوروبي على تكرار المحاولات لأن البديل سيكون خطيرًا لاسيما في حال نشوب مواجهة عسكرية على الحدود الجنوبية من الاتحاد الأوروبي، بما يعنيه ذلك من تأثيرات في ملفي الهجرة غير الشرعية والارهاب. ويشير بعض المراقبين إلى حاجة الاتحاد الأوروبي إلى دور فاعل في هذه الأزمة بالنظر إلى علاقات ألمانيا القوية بالجانبين المصري والاثيوبي، ما يؤهله لإحداث اختراق حيوي والتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن في هذه الأزمة الصعبة.
هناك حالة فراغ استراتيجي كبيرة بسبب غياب الدور الأمريكي أو محدوديته في أحسن التقديرات، ويجب على الدبلوماسية الأوروبية أن تتحرك بشكل أكثر فاعلية لملء هذا الفراغ خصوصًا على مشارفها وفي دوائر مصالحها الاستراتيجية الحيوية.