يخطىء من يظن أن الحلول التفاوضية هي السبيل الأسرع لايجاد تسوية سياسية تنهي أزمة "سد النهضة" الاثيوبي، فالخيار التفاوضي هو الخيار الأكثر تحضراً وتحقيقاً للأمن والسلم الدوليين، باعتباره أحد أفضل مخرجات العلاقات الدولية، ولكنه ليس الأسهل ولا الأسرع في كل الأحوال، ولهذا لست مع "بورصة" التشاؤم والتفاؤل التي تطغي على مقالات الرأي والتحليلات السياسية التي تتناول هذه الأزمة المعقدة خلال الفترة الراهنة من خلال تناول تصريح هنا أو موقف هناك، فالأزمة اعقد من الحسابات والرؤى الضيقة ويتداخل فيها "الفني" مع "السياسي"، وتلعب فيها أطراف خارجية عدة أدواراً مشبوهة، وترى فيها "فرصة" للضغط على مصر وشعبها والنيل من "نيلها" العظيم.
صحيح أن المدى الزمني المتاح للبحث في الحلول التفاوضية ضيق للغاية، بحكم تمسك اثيوبيا ببرنامجها الزمني لبدء ملء السد بالمياه، ولكن هذا الأمر قد لا يعني إغلاق باب الجهود السياسية حتى لو انتهى المدى الزمني، فالعبور من مربع الدبلوماسية إلى مربع الحرب ليس بالأمر الهين ولا السهل، ليس فقط على طرفي الصراع الأساسيين، مصر واثيوبيا، ولكن أيضاً على المجتمع الدولي، الذي يقف عاجزاً إلى حد كبير في الاضطلاع بدور فاعل في هذه الأزمة، ولكن لا يمكنه أيضاً تحمل عواقب اندلاع صراع عسكري في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
الحقيقة الساطعة أن مصر قد تبدو ـ في نظر البعض ـ في موقف ضعف على الصعيد التفاوضي، ولكن هذا لا يعني أنها لا تمتلك خيارات استراتيجية أخرى تعزز موقفها في هذا الصراع بشكل عام، فالقوة الشاملة للدول لا تقاس بالمعطيات والحقائق السياسية فقط، بل تشمل القوة العسكرية والاقتصادية وكافة الموارد التي تمتلكها الدول بما فيها القوة الناعمة والتأثير الحضاري والثقافي والانساني للدول، ولهذا فهي تراهن على خيار الحوار وتركز على تفادي سيناريو الحرب قدر الامكان، ولكن بالمقابل، فإن نجاح هذا السيناريو يتوقف على إرادة أطراف الصراع كافة وليس على إرادة طرف أو طرفين فقط، ولذا فقد حرصنا ـ في مقالات سابقة ـ على دعوة القيادة الاثيوبية على إعلاء لغة العقل والحكمة وعدم الانصياع لمن يريد استدراج دول النيل وشعوبه إلى صراع كارثي غير معروف العواقب.
على الجميع في هذه الأزمة المعقدة إدراك أبعادها كافة وحقيقتها وجوهرها، فالمسألة لا تتعلق بالقانون ولا السياسة ولا حتى توازنات القوى العسكرية فقط، بل لها بعد انساني ينطلق من واقع هذا النهر العظيم الذي يمثل شريان حياة وجودي لشعوبه، ما يعني أن الحديث عن أزمة ليس حديثاً عادياً بل هو تحد للبقاء، والحياة والموت، والأمر بعيد تماماً عن فكرة القبول بالأمر الواقع، لاسيما إذا كان هذا الواقع الذي يريد طرف ما فرضه يحمل بذور فناء أطراف أخرى تشرب من شريان الحياة ذاته!
لذا فإن الأزمة لا تحتمل ـ من أي طرف فيها ـ تبني رهانات استراتيجية تحتمل الخطأ والصواب، ولا تقبل تدخل أطراف أخرى لتحريض بعض أطرافها على الآخرين، ولا يجب تقييم الموقف الاستراتيجي فيها وفق حسابات الارباح والخسائر الرقمية والمادية الآنية، فهناك أبعاد استراتيجية أعمق وأكثر استدامة تمثل الثقل الأهم في حسابات هذه الأزمة غير العادية.
وقناعتي أن الدبلوماسية المصرية تحتاج خلال الفترة القصيرة المقبلة إلى تكثيف وجودها في الاعلام الدولي، لأن هناك شق مؤثر يتعلق بكسب معركة الرأي العام العالمي في هذه القضية الوجودية، فالاعلام المصري في معظمه يتحدث إلى الداخل المصري، وهو أمر حيوي وضروري لضمان بناء رأي عام داخلي واع يساند قيادته، ولكن من الضروري كذلك نقل أبعاد هذه القضية إلى العالم وشعوبه. كما اعيب أيضاً على الاعلام العربي في معظمه عدم وضع هذه القضية التي تخص نحو 150 مليون عربي في مصر والسودان على قائمة أولوياته، بل يتابعها كما يتابعها العالم الخارجي وكأنها لا تخص هذه الملايين المعرضة للهلاك والجوع في حال جفاف مياه النيل لا قدر الله.
ونحن لا نتناول هنا هذه الأزمة انطلاقاً من بعد عاطفي أو قومي، بل ننطلق من رؤية تحليلية موضوعية تستوعب دروس الماضي والحاضر فمنطقتنا دفعت، ولا تزال، أثماناً غالية للحسابات والرهانات الخاطئة، والأيام القلائل القادمة قد تكون فاصلة في مسار أزمة "سد النهضة" خصوصاً بعد أن اعلنت اثيوبيا نيتها ملء خزان السد خلال الأسبوعين المقبلين اللذين أوشكا على الانتهاء بالفعل، بعد القمة الافتراضية التي رعاها رئيس جنوب افريقيا وبمشاركة قادة الدول الثلاث المعنية، مصر والسودان واثيوبيا، وتعهدت فيها اثيوبيا بعدم الاقدام على أي خطوة أحادية بملء الخزان إلا بعد التوصل إلى اتفاق نهائي ملزم لجميع الأطراف؛ فالوقت يمضي بسرعة، وعلى الجميع أن يدرك أن هناك خطوط حمر تتعلق بالأمن القومي للدول كافة لا يمكن لأي قيادة سياسية في أي دولة تجاوزها ولا غض الطرف عنها، فالقادة تحكمهم في الأخير بيئة الصراع ومعطياته وتأثير الأزمات على مصائر شعوبهم، فما بالنا بوضعية ومكانة وتأثير مسألة مياه النيل على الشعب المصري؟ ورأيي أن هامش الحركة الاستراتيجي للبحث عن حل تفاوضي في هذه الأزمة سينفذ بسرعة قياسية في حال بدء ملء الخزان وقد تنزلق الأمور وتتدهور بسرعة شديدة ومن دون ضوابط دقيقة، لذا فإن الحكمة واجبة من جانب القيادة الاثيوبية التي تعمل وفق سياسة الأمر الواقع التي لا تصلح للتعامل مع مثل هذه الأزمات الحساسة بأي حال.