تبدو معركة ابتكار أول لقاح في العالم ضد فيروس "كورونا" مثيرة للانتباه بالنسبة للمراقبين والمتخصصين في العلاقات الدولية، باعتبارها الوجه الآخر للصراع القطبي بين القوى الكبرى، وباعتبارها إحدى ساحات التنافس التي ترسم اتجاهات الصراع وحدود القوة والمكانة والهيمنة في عالم ما بعد كورونا. وقناعتي الذاتية أنه لا يمكن فهم الجدل المتفاقم بين الصين وروسيا والغرب ـ بل وداخل الغرب ذاته ـ حول فاعلية اللقاع المنتظر من دون فهم آليات الصراع الدولي.
ملامح السباق القطبي على اختراع "اللقاح" بدأت سريعًا في مارس الماضي، حيث اتهمت الحكومة الالمانية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمحاولة "السطو"على مشروع لقاح ضد فيروس كورونا المستجد، كان يعمل على تطويره مختبر ألماني، فيما نفى المختبر الألماني نفيا قطعيا هذه الأخبار في تغريدة على تويتر، بينما التزم البيت الأبيض الصمت.
ووفقا لصحيفة "دي ويلت"الألمانية، فإن الرئيس الأمريكيدونالد ترامبحاول الاستحواذ على لقاح جديد تعمل على تطويره شركة "كيوروفاك" الألمانية المتخصصة في صنع المستحضرات الدوائية، حيث أراد الرئيس ترامب الحصول على اللقاح حصريا لتوزيعه فقط في الولايات المتحدة. إلا أنه اصطدم برفض حكومي ألماني حتى أن وزير الاقتصاد الألماني بيتر التاميير احتج على ذلك على إذاعة "إر.دي.دي"الحكومية وقال إن ألمانيا "ليست للبيع".
وقالت الصحيفة التي حصلت على معلومات من "الدوائر الحكومية" إن الرئيس الأمريكي يسعى إما لجذب العلماء إلى الولايات المتحدة "بعروض مالية عالية" أو لضمان حصرية إنتاج اللقاح المضاد للفيروس. وذكرت صحيفة "سود دويتشه تسايتونج" الألمانية أن الحكومة الألمانية لن تسمح برؤية اللقاح يفلت من يديها لصالح دولة أجنبية أخرى بعد أن ساهمت ماليًا في إنتاجه. وقالت إنها أيضا مسألة سيادة وطنية، حيث قال وزير الاقتصاد الألماني: "عندما يتعلق الأمر بالبنية التحتية، والمصالح الوطنية والأوروبية، فإننا سنكون مستعدين للتحرك وفقا للضرورة".، مايدلل على أن الأمر لا يتعلق بالبحث العلمي والأرباح المادية فحسب بل يتصل بشكل وثيق بمكانة الدول المتنافسة وصراعها على الهيمنة والسيادة ولوجًا من باب العلم والبحث العلمي.
لم يكد السباق الألماني ـ الأمريكي حول اللقاح يهدأ، وتتلاحق الأخبار حول بدء التجارب على لقاحات أمريكية وصينية، بعضها نتائجه مبشرة، حيث ذكرت منظمة الصحة العالمية في نهاية يوليو الماضي، أن هناك 26 لقاحًا مرشحًا في العالم يجري تقييمها خلال تجارب إكلينيكية على البشر، وأن معظم هذه التجارب لا يزال في "المرحلة الأولى" التي تهدف بشكل أساسي إلى تقييم سلامة المنتج، أو "المرحلة الثانية" الخاصة بقياس الفاعلية، فيما خمسة منها فقط هي في "المرحلة الثالثة" الأكثر تقدمًا، حين تختبر الفعالية على آلاف المتطوعين، وهذه الاجراءات تخضع لها لقاحات تطورها شركات بريطانية وصينية وألمانية وأمريكية، حتى صدرت عن دول غربية عدة شكوك حول فاعلية لقاح روسي أعلن عنه الرئيس فلاديمير بوتين، حيث بادرت وزارة الصحة الألمانية للتشكيك في "نوعية وفعالية وسلامة" اللقاح الروسي.
وجهة النظر الألمانية تحديدًا عبر عنها وزير الصحة الألماني ينس شبان، الذي قال "قد يكون من الخطير البدء بتحصين الملايين من الناس في وقت مبكر للغاية لأنه قد يوقف إلى حد كبير قبول (فعالية) التطعيم إذا حدث خطأ"، وأضاف "الأمر لا يتعلق بأن تكون الأول بقدر ما يتعلق بالحصول على لقاح آمن". وقالت إيزابيل إمبرت، الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية في مرسيليا، إن الوعد بالحصول على الشفاء مبكرا جدا قد يكون "خطيرا للغاية". وفي الولايات المتحدة، قال أنتوني فاوتشي، كبير خبراء الفيروسات في البلاد، إنه يشك في الادعاءات الروسية.
ورغم الجدل العلمي حول أهمية أن يجتاز اللقاح الروسي المرحلة الثالثة من التجارب، والتي تشمل آلاف الأشخاص، باعتبارها الجزء الأهم من عملية الاختبار، فإن السباق على اللقاح ليس بعيدًا عن الصراع القطبي، حيث تشبه روسيا البحث عن لقاح بسباق الفضاء الذي تنافس فيه الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وهو ما انعكس في انخراط الرئيس بوتين بشكل قوي في الاعلان عن اللقاح، واصفًا الأمر بأنه دليل على تفوق روسيا علميًا، ناهيك عن أن إطلاق مسمى "سبوتينك"على العقار يشير إلى الرغبة في ربط الانجاز الروسي باسم أول قمر صناعي روسي تم إطلاقه خلال سباق الفضاء إبان الحرب الباردة.
وبغض النظر عن فاعلية اللقاح الروسي، فإن استقراء شواهد السجال الروسي الغربي حول هذه الخطوة، يؤكد أنها تتعلق أيضًا بصراع على سبق علمي يوازي في أهميته انتصار "سبوتنيك" الفضائي في اكتوبر عام 1957، حين أرسل الاتحاد السوفيتي السابق أول قمر صناعي يجوب مدار الكرة الأرضية محققًا الانتصار الأول في السباق الفضائي في ظل ذهول ودهشة أمريكية من المفاجأة الروسية، ما عبر عنه كيريل دميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة السيادية لروسيا حين قال “نحن أمام لحظة سبوتنيك لكثير من الناس الذين لم يتوقعوا أن تكون روسيا هي الأولى” في تطوير اللقاح.
والسؤال الآن: هل أصبحت لحظة الانتصار العلمية الروسية قريبة رغم أن العالم كانت يترقب تنافسًا غربيًا ـ صينيًا؟ وهل أفلحت روسيا في قلب معادلة الصراع القطبي الجديد لتضع نفسها في صدارة المتنافسين على قيادة عالم مابعد كورونا؟.