من البديهي أن تقرأ الدول والعواصم، فضلًا عن المراقبين والباحثين، نتائج الانتخابات الأمريكية والفائز بها من زوايا مختلفة تتعلق برؤية كل طرف ومصالحه ووجهات نظره والجوانب التي تحتل صدارة أولوياته في النظر للمواقف والسياسات والاستراتيجيات الأمريكية، وهذا يفسر ـ إلى حد كبير ـ التباين الحاد في تفسير أو فهم أو تلقي نتائج هذه الانتخابات سواء بالارتياح أو بالقلق، أو حتى محاولة "مسرحة" العملية الانتخابية الأمريكية بادعاء أنها "مسرحية" أو غير ذلك من الفاظ لا تنطبق في الحقيقة على الصراع الانتخابي الأكثر شراسة في العالم.
وبقراءة أحاول أن تكون موضوعية لنتائج هذه الجولة الانتخابية غير المسبوقة من حيث ظروفها وطبيعة الصراع السياسي الذي شهدته، يمكنني تسليط الضوء على بعض النقاط أولها أن نتائج هذه الانتخابات تمثل ضربة قوية لصناعة استطلاعات الرأي العام في البلد الأكثر ديمقراطية في العالم بحسب توصيف معظم الدراسات والبحوث، فقد فشلت هذه الاستطلاعات فشلًا ذريعًا في التنبؤ بنتيجة الانتخابات رغم أنها منحت الرئيس المنتخب جو بايدن الأفضلية في معظم هذه الاستطلاعات، لسبب بسيط أن غالبية نتائج الاستطلاعات قد منحت بايدن تفوقًا ملحوظًا يراوح بين 5ـ12 نقطة، وهذا يعني بالتبعية أنه سيحسم السباق بأغلبية مريحة، وهذا لم يحدث في واقع الأمر بل ظلت النتائج معلّقة لأيام عدة بانتظار فرز الأصوات في الولايات الحاسمة أو المتأرجحة، والتي تقاسمها المتنافسان بفوارق محدودة للغاية عدا بعض الولايات التي فاز فيها الرئيس ترامب بأغلبية كبيرة نسبيًا.
فشل استطلاعات الرأي في التنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليس الأول من نوعه، بل سبقه فشل كبير في الجولة الانتخابية السابقة (2016) التي خاضتها هيلاري كلينتون ضد دونالد ترامب، وهي مؤشرات تدفع باتجاه إعادة النظر في قواعد إجراء الاستطلاعات ومعاييرها ومعالجة مايشوبها من ثغرات، ولاسيما ما يتعلق بشريحة الناخبين المترددين، وكذلك الجزئية الخاصة بنوايا التصويت واتجاهاته الحقيقية في ظل بروز شواهد على أن المستطلعة أراؤهم كثيرًا ما يدلون بآراء على خلاف اتجاهاتهم الحقيقية، وهو ما يمثل نوعًا من التضليل الذي يصعب اكتشافه أو تجنبه ولكنه بحاجة إلى معالجة احصائية وعلمية تعزز صدقية نتائج الاستطلاعات لأنها بالأخير تمثل صناعة ضخمة، فضلًا عن كونها أحد الأركان التي تعتمد عليها العملية الديمقراطية في الغرب.
ثاني النقاط التي يمكن تسليط الضوء عليها ما يتعلق بوضع الرئيس ترامب، الذي يصعب بعد النتائج التي حققها في هذه الانتخابات القول بأنه يمثل ظاهرة عابرة في الحياة السياسية الأمريكية، فنحن بصدد نسبة تقارب النصف من الناخبين الأمريكيين صوتوًا للرئيس ترامب، أي أنهم يدعمون توجهاته ومواقفه وآراءه المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية على حد سواء، بمعنى أن هناك تيارًا جارفًا بين الناخبين الأمريكيين سيبحثون لاحقًا عن بديل للرئيس ترامب في أي انتخابات مقبلة، كما أسهمت تلك الشعبية في النتائج التي حققها الجمهوريون في انتخابات مجلس الشيوخ، وتلك مسألة تستحق وقفة من جانب من ينظرون إلى الرئيس ترامب باعتباره ظاهرة طارئة أو عابرة في المشهد السياسي الأمريكي، حيث سقطت كل التحليلات التي تقول بفشله في إدارة السياسات الداخلية والخارجية لدرجة تعرضه لهزيمة كاسحة، وما حدث أنه ظل منافسًا قويًا بل وفائزًا محتملًا طيلة الأيام الخمس التي حبس الجميع أنفاسهم خلالها بانتظار ظهور نتائج نهائية لهذا السباق الاستثنائي.
الدرس هنا أن على العالم أن يستعد لأمريكا جديدة في السنوات والعقود المقبلة، وأن مواقف ترامب من المؤسسات والاتفاقات الدولية قابلة للتكرار وأن نهج الانعزالية الأمريكية لم يطوَ بخسارة الرئيس ترامب لهذه الانتخابات، لاسيما أن فكرة الانعزالية متجذرة في العقلية السياسية الأمريكية ولها داعمون ومؤيدون كثيرون داخل النخبة السياسية وبين الأمريكيين العاديين. والواقع أن هناك الآن ما يمكن وصفه بالتيار الترامبي في السياسة الأمريكية وتحديدًا داخل الحزب الجمهوري.
النقطة الثالثة تتعلق بفكرة تخلي الرئيس المنتخب بايدن عن كل سياسات الرئيس ترامب وعودته إلى نهج سياسي يشابه توجهات الرئيس السابق باراك أوباما، الذي عمل نائبًا له، وهذه فكرة خيالية تنتمي للتحليل بالتمني وليس للواقع الحقيقي، لسبب بسيط أن لكل رئيس بصمته حتى لو كان هذا الرئيس نائبًا سابقًا، فهو بالأخير كان ملتزما بالخط السياسي الذي يرسمه الرئيس وليس النائب. الأمر الآخر أن تطورات كثيرة قد حدثت والمسألة ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، بمعنى أنه ليس بإمكان الرئيس الجديد شطب كل قرارات الرئيس السابق بجرة قلم، لأن الأمر بالأخير يتعلق بمصالح استراتيجية لدولة عظمى وهناك مؤسسات دستورية تراقب السياسات ولديها سلطات للتأثير فيها وعليها، ويصعب أن يتجاوز أي رئيس الخطوط الحمراء التي ترسمها مؤسسات الأمن القومي لحماية المصالح الأمريكية، ولنا أن نفهم أن هناك استراتيجيات ترسمها المؤسسات وهناك تكتيكات ينتهجها كل رئيس ويضع بصمته عليه وتعبر عن شخصيته ونهجه السياسي. على سبيل المثال لا خلاف على أن ترامب وبايدن يتبنيان نفس الموقف تجاه الخطر النووي الايراني، ولكنهما يختلفان في تكتيك السيطرة على هذا التهديد، ترامب حاول من خلال سياسة العقوبات القصوى وبايدن وعد بالعودة إلى الاتفاق النووي ولكني اثق أنه لن يعود سوى من خلال شروط ومفاوضات جديدة تضمن احتواء هذا الخطر، أي أن هناك تباينا في التكتيك واتفاقا في الاستراتيجية، وهذا لا يمنع أن يكون لرئيس ما بصمات نوعية أو استثنائية مثل انسحاب الرئيس ترامب من بعض الاتفاقات والمعاهدات الدولية كاتفاق باريس، ولكني أثق أيضًا أن مثل هذه القرارات تتخذ بالتفاهم مع المؤسسات المعنية بالأمن القومي باعتبارها مناورات سياسية بعيدة المدى للحصول على تنازلات أو تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية.