باتت مسألة اللُحمة المجتمعية والوحدة الوطنية بين أبناء الشعب، أحد أبرز التحديات الاستراتيجية التي تواجه الدول جميعها، واللافت أن هذا التحدي كان قبل أعوام قلائل تحد يرتبط بدول معينة ليس من بينها الدول المتقدمة، والأكثر تقدمًا، ولكن برزت في الآونة انقسامات حادة في تلك الدول ربنا تفوق في خطورتها وتأثيراتها على المديين المتوسط والبعيد ـ إن استمرت على حالها ـ تلك الانقسامات التي تعانيها الكثير من دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
الانقسامات بين أبناء الشعب الواحد ليست ظاهرة عابرة ولا طارئة تاريخيًا في المشهد السياسي على المستوى الكلي أو الفردي بشكل عام، ولكنها تفاقمت وتوغلت في العديد من الدول عقب ما يعرف إعلاميًا بـ "الربيع العربي"، حيث عززت التنظيمات الإرهابية المتطرفة والدول الراعية لها، وكذلك الدول الإقليمية التي تمتلك مشروعات هيمنة توسعية، عوامل التفتت والانقسام الطائفية والدينية والعرقية، ما تسبب في انزلاق بعض الدول إلى صراعات طائفية وعرقية، وكادت دول أخرى تسقط في فخ الحرب الدينية على أساس ديني.
في الغرب، برزت في السنوات الأخيرة أيضًا انقسامات مجتمعية على أساس ديني وعنصري، تغذت على الشحن المتواصل من جانب التيار اليميني المتطرف في بعض الدول الأوروبية على سبيل المثال، بينما برزت الولايات المتحدة والمجتمع الأمريكي مؤخرًا، كأحد أخطر النماذج على ظاهرة الانقسامات على قاعدة.
وقد جاءت اعترافات وتحذيرات العديد من الساسة الأمريكيين من تفاقم الانقسامات التي تعانيها الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، لتلفت الأنظار بشدة إلى تأثير هذه الانقسامات على سمعة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، باعتبارها نموذجًا للديمقراطية وكل ما يرتبط بها من قيم ومبادئ مجتمعية وسياسية.
وقد جاء اعتراف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في إطار التصريحات الاعلامية التي يدلى بها ترويجًا لمذكراته الشخصية، بأن الولايات المتحدة باتت "دولة منقسمة للغاية" ليضيف زخمًا للنقاشات والتحليلات التي تتمحور حول هذه المسألة، والحقيقة أن هذه الانقسامات بدأت منذ انتخاب الرئيس أوباما نفسه لمنصب الرئاسة في عام 2008، ثم عادت للظهور مجددًا بشكل أكثر عمقًا عقب انتخاب الرئيس دونالد ترامب عام 2016، وهي انقسامات لا ترتبط بالشعارات والقيم السياسية للقادة والرؤساء بقدر ارتباطها بالتفاوت المجتمعي والاقتصادي والمعيشي بين الطبقات، أو بين الريف والحضر، أو بمعنى حول توزيع الثروة وتقاسم عوائد التنمية
بين طبقات المجتمع المختلفة.
البعض، ومنهم الرئيس الأمريكي السابق أوباما، يرون أن وسائل التواصل الاجتماعي قد لعبت الدور الأبرز في تأجيج الانقسامات من خلال نشر "نظرية المؤامرة" وما يصفونه بالمعلومات المُضللة التي تقود بدورها إلى استنتاجات مُضللة، ويتهمون كذلك منافسيهم السياسيين بالترويج لهذه النظرية وتغذية الانقسامات عبر العالم
الافتراضي، ومن ثم ترسيخها في الواقع بين العامة.
والحقيقة أن هناك "صدوعات تاريخية" لا تزال تنزف ومنها العرق والدين، وأن أفكار التعايش وقبول الآخر ونبذ الكراهية والتعصب لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهد المؤسسي المتواصل من أجل تعميق جذورها وتثبيتها وتناقلها بين الأجيال. ورغم أن القلق الأساسي الذي ينتاب الساسة والمراقبين من تفشي الانقسامات يرتبط أساسًا بمسار الممارسة الديمقراطية، فإن الأمر في تداعياته يفوق هذا الجانب ـ رغم أهميته ـ تأثيرًا لأن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي عكست تقاربًا لافتًا في نتائج التصويت الشعبي المباشر، تؤكد أن عمق الانقسام المجتمعي، فضلًا عن أن العالم كله قد تابع العنف والفوضى التي عانت منها بعض المدن الأمريكية عقب مقتل جورج فلويد على يد أحد عناصر الأمن الأمريكيين، أضف إلى ذلك أن أحد ركائز التفوق الأمريكي والهيمنة على مفاصل النظام العالمي القائم ترتبط بسمات النموذج الأمريكي بكل جوانبها القيمّية والسياسية والاقتصادية والثقافية، أي السمات المادية والمعنوية لهذا النموذج، الذي يكاد يتداعى في نظر الكثيرين حول العالم بسبب ما يعانيه من أزمات متوالية تتطلب تدخلًا عاجلًا لترميم الشروخ التي تعانيها الصورة الذهنية للولايات المتحدة في نظر شعوب العالم.
هناك أيضًا خطرًا حقيقيًا على ديمومة التعايش بين عناصر المجتمع الأمريكي، وهي مسألة هشة ليس لأنها غير مستقرة في الذهنية الأمريكية ولكن اأنها تتعلق بموضوع مجتمعي بالغ الحساسية يمكن لأي ممارسات سلبية أن تنال منه وتؤثر فيه.
الصدوعات والانقسامات المجتمعية ليست آفة دول بعينها، ولكنها باتت آفة عالمية، وأحد الحلول والبدائل المهمة للتعاطي معها يتمثل في التصدي بمزيد من الأدوات والآليات القانونية الصارمة لكافة أشكال وممارسات الكراهية والتعصب ورفض الآخر وأي تفرقة على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس، والأهم من ذلك العمل على لجم أو استئصال التيارات المتطرفة كافة، التي تغذي الانقسامات وتعمل على اثارة النعرات والأحقاد وتغذيتها باعتبارها البيئة الملائمة لنمو هذه التيارات لأن البديل لذلك سيكون التضحية بأسس الدولة الوطنية وتقويضها في العالم أجمع، فيما قد يمثل خسارة فادحة لأحد أهم المكتبسات التي حققتها مسيرة الأمن والسلم العالميين منذ أن اتخذت من الدول الوطنية أساسًا للاستقرار والتوصل إلى تفاهمات عالمية حول الأمن والسلم الدوليين من خلال المؤسسات الأممية وغير ذلك.