منذ الاعلان عن سقوط ما سُمي بدولة تنظيم "داعش" في العراق وهزيمة التنظيم الارهابي واندحاره في سوريا، ثم تفشي جائحة "كورونا" المستجد (كوفيد ـ19) في مختلف أرجاء العالم، وما تسبب فيه من انحسار للتواصل والحوار في العلاقات الدولية بسبب سياسات الغلق الاضطرارية للتصدي لانتشار الوباء، فإن مكافحة الارهاب قد تراجعت ضمن أولويات المجتمع الدولي والقوى الكبرى.
صحيح أن الأولوية في الوقت الراهن هي للتصدي للوباء الذي خلّف آثاراً مدمرة على الاقتصادات الغربية على وجه التحديد، ولكن يجب أن يستعيد العالم أولويات أخرى ويضعها مجدداً على طاولة النقاش الدولي، الذي تحول في معظمه إلى اجتماعات افتراضية، تحقق الحد الأدنى من الأهداف المرجوة للحوار الدولي حول القضايا الاستراتيجية التي تشغل العالم.
ولاشك أن مكافحة الارهاب تقع في صدارة الأولويات التي تستحق العودة إلى صدارة الاهتمامات الاستراتيجية للعالم، فرغم هزيمة الارهاب في سوريا والعراق، فإن التقارير والشواهد تشير إلى أن تنظيمات الارهاب نقلت مركز نشاطها إلى القارة الافريقية، حيث تشهد منطقة جنوب الصحراء الكبرى نشاطاً متزايداً للارهابيين؛ وفي هذا الإطار تشير نشرة "مؤشر الارهاب العالمي" الصادرة في نوفمبر الماضي إلى أن تنظيم "داعش" قد انتقل إلى القارة الافريقية وإلى جنوب القارة الآسيوية بدرجة أقل، حيث تشهد هاتين المنطقتين تصاعداً ملحوظاً في الأنشطة الارهابية مقارنة بالأعوام السابقة.
منطقة جنوب الصحراء أو منطقة الساحل كما تُعرف، تضم دولاً افريقية عدة ينشط الارهاب بكثافة في البعض منها مثلما يحدث في جمهورية مالي، وهناك توقعات وتقديرات غربية تشير إلى أن هذه المنطقة مرشحة لأن تكون ساحة لتصدير الارهاب وأنشطته خلال العقدين المقبلين، وأن افريقيا ستكون "ساحة الجهاد" العالمية خلال المديين القريب والمتوسط، وهذه الاستنتاجات يجب ألا يتم التعامل معها بتهاون كما حدث في بدايات تمركز "داعش" في العراق وسوريا، ويجب أن يتذكر العالم حجم التكلفة الباهظة التي تحملتها الدول التي شاركت في الحملة الدولية لمكافحة الارهاب من أجل هزيمة الارهابيين في هذين البلدين.
والحقيقة أن تجارب العالم في التعامل مع الظاهرة الارهابية تشير إلى ضرورة عدم تجاهل خطر أنشطة التنظيمات المتطرفة في أي مكان في العالم، لأنها في الأخير تمتلك أجندة تضع الجميع في فوهة بنادقها وخطرها يطال الدول والعواصم والشعوب في شرق العالم وغربه، وبالتالي لا يجب غض الطرف عن تمركز هذه التنظيمات في مناطق جغرافية قد تبدو بعيدة من وجهة نظر البعض، فجبال تورا بورا في أفغانستان، والتي لا يعرفها الكثيرون شرقاً وغرباً، سبق أن كانت مأوى لعناصر تنظيم شن أكبر اعتداء ارهابي في التاريخ، ولذا يجب عدم وضع هذه الأولوية قيد الانتظار، فخطر الارهاب لا يقل عن خطر الأوبئة، وجميعها تهديدات تحمل آثاراً تدميرية كارثية على الاقتصادات والبشر والحجر.
في ضوء ماسبق يجب أن يتكاتف العالم مجدداً من أجل تنسيق الجهود لمواصلة عمليات مكافحة الارهاب، ويُتوقع أن يبدأ ذلك من ليبيا، التي وقعت فريسة تدخلات تركية بغيضة جلبت الآلاف من العناصر الارهابية من ساحات الصراع في سوريا للقتال لحساب تركيا على الأراضي الليبية، ومن المشكوك فيه طرد هذه العناصر بشكل كامل ما لم تتضامن جميع القوى الدولية للضغط على تركيا لسحب ميلشياتها من الأراضي الليبية، كما يفترض تقديم الدعم والمساندة الدولية في جبهات أخرى مثل مالي ونيجيريا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وغيرها من الدول التي تعاني انتشاراً لتنظيمات التطرف والارهاب.
وإذا كانت المعضلة التي تسهم في تحويل أجزاء كبيرة من منطقة جنوب الصحراء الكبرى الافريقية إلى ساحات للتنظيمات الارهابية هي الفوضى وغياب الدولة المركزية والفقر والفساد، فإن من المهم وضع هذه الأمور على طاولة النقاش الدولي في أقرب فرصة ممكنة كي يتم التداول بشأنها وايجاد حلول ومخارج تتصدى للخطر الناجم عن هذه الأوضاع، والتغلب على العقبات التي تحول دون تقديم الدعم العسكري واللوجستي الغربي لبعض جيوش الدول الافريقية التي تعاني تفشياً للارهاب، لأن استمرار هذه العقبات يعني توفير البيئة المثالية لتكاثر تنظيمات الارهاب، وتعزيز قدرتها على استغلال الفوضى والفقر والفساد في تجنيد المزيد من أبناء هذه المناطق والتحول تدريجياً إلى تنظيمات يصعب مكافحتها سوى بأثمان باهظة مثلما حدث مع تنظيم "داعش" في العراق، والذي سيطر في وقت من الأوقات على مساحات شاسعة من أراضي الدولتين السورية والعراقية!
يجب أن يتذكر الجميع أن تنظيمات الارهاب تتكاثر بوتيرة متسارعة، وتحصل على دعم أنظمة تستخدمها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ثم ما تلبث أن تتحول إلى خطر يداهم الجميع، وتجربة تنظيم "داعش" الذي خرج من رحم جماعة جهادية عراقية صغيرة لا تزال حية، بل يجري استنساخها في مناطق جغرافية أخرى من العالم، ومن ثم فإن مكافحة الارهاب ليست أولوية مؤجلة أو قابلة للتأجيل بل يفترض أن تمضي جنباً إلى جنب مع التصدي لتهديدات أخرى مثل وباء "كوفيد ـ19"، والصراعات العسكرية المشتعلة في العديد من دول الشرق الأوسط تحديداً.